[إرهاصات غزوة مؤتة]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
وضح لنا في الدرس السابق أن الدولة الإسلامية في العام السابع من الهجرة كانت تسير من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن مجد إلى مجد، فمن فتح خيبر إلى انتصارات متتالية على غطفان، إلى عمرة القضاء بكل أبعادها السياسية والدعوية، إلى إسلام أبطال مكة الثلاثة: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين.
هكذا كانت الدولة الإسلامية، وكان الوضع يسير في تقدم ملموس واضح لكل الناس، لكن هذا النمو المتزايد لفت أنظار الكثيرين ممن لم تكن لهم علاقة مباشرة بالدولة الإسلامية، فأحسوا بخطر قيام هذه الدولة الفتية في المدينة المنورة، ومن ثم بدءوا في التحرش بالدولة الإسلامية، وتفاقم الأمر حتى وصل إلى إراقة دماء مسلمة.
هذه المشاكل في مجموعها كانت تأتي من شمال الجزيرة العربية، وشمال الجزيرة العربية كان موطناً لعدة قبائل كبرى من قبائل العرب، ومن أشهر هذه القبائل: لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلى، وغسان، وقضاعة، وغيرها من القبائل، وكان الكثير من هذه القبائل يدين بالنصرانية، ويوالي الدولة الرومانية القريبة من هذه الأماكن، فالدولة الرومانية كانت تحتل بلاد الشام، ولها هيمنة على هذه المنطقة بكاملها، وزعماء هذه القبائل على عظمها كانوا عبارة عن مجرد عمال لـ هرقل على بلادهم، كعادة الدولة الصغرى في التعامل مع الدولة العالمية العملاقة.
ولما بدأت الدولة الإسلامية في الظهور، وبخاصة بعد غزوة الأحزاب، بدأت هذه المنطقة الشمالية في التحرش بالدولة الإسلامية.
عندما نقوم بمراجعة سريعة لتاريخ هذه المنطقة، نجد أن الأمور تتصاعد وتنذر بصدام كبير بين قبائل المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنتين السابقتين سنة ست وسبع من الهجرة، وقد ذكرنا أنه في شهر جمادى الآخرة سنة ست اعترضت قبيلة جذام دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، وأنهم سلبوه كل ما كان معه من هدايا موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا سبباً في إرسال سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة حسمى، وتكلمنا عليها من قبل، وكانت سرية ضخمة عددها خمسمائة رجل، وهذه السرية هزت هذه المناطق وحققت نجاحاً كبيراً للمسلمين.
وأيضاً مر بنا رد هرقل لفكرة الإسلام مع إيمانه الجازم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ضن بملكه وآثر أن يكون ملكاً على أن يكون مؤمناً.
وأيضاً مر بنا موقف الحارث بن أبي شمر زعيم دمشق، وعزم هذا الرجل على تجهيز الجيوش لغزو المدينة لولا أن هرقل منعه كما ذكرنا.
كانت هناك حوادث كثيرة تنبئ عن قرب الصدام بين المسلمين وبين هذه المنطقة الشمالية.
أيضاً كانت هناك أحداث جديدة، فقد قامت قبيلة قضاعة في ربيع الأول سنة ثمان باغتيال مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعددهم خمسة عشر رجلاً، وكان على رأسهم كعب بن عمير الأنصاري أو عمرو بن كعب الغفاري رضي الله عنهم أجمعين.
اعترضت قبيلة قضاعة طريقهم وقامت بقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً فقط، وهذه السرية التي خرجت للدعوة إلى الله عز وجل تعرف بسرية ذات أطلاح، وقد ذكرنا أن قبيلة قضاعة لم يكن لها علاقة سابقة بالمسلمين فاعتدت على مجموعة من رعايا الدولة الإسلامية.
ثم تفاقم الأمر جداً عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رسالة إلى عظيم بصرى بالأردن يدعوه فيها إلى الإسلام، وحامل الرسالة كان الحارث بن عمير رضي الله عنه، وهو في الطريق اعترض طريقه شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو عامل هرقل على منطقة البلقاء أيضاً في الأردن، وقيد الحارث بن عمير ثم ضرب عنقه.
وقتل الرسل جريمة شنيعة؛ لأن الأعراف كانت تقضي بعدم قتل الرسل، وكان هذا تجاوزاً خطيراً جداً من هذه القبائل، وكما ذكرنا أن معظم هذه القبائل كان يدين بالنصرانية ويتبع الدولة الرومانية.
بعد هذا الحدث زاد الأمر سوءاً، وبدأت الدولة الرومانية ونصارى الشام يتعقبون كل من أسلم ويقتلونه، حتى وصل الأمر إلى قتل والي معان في الأردن؛ لأنه كان قد أسلم، فقتلوه لإسلامه.
إزاء هذه الأوضاع المتردية كان لا بد للدولة الإسلامية من وقفة جادة للدفاع عن هيبة الدولة الإسلامية والثأر لكرامتها.
وقفة لتأمين حركة الدعاة المسلمين لهذه المناطق الشمالية من الجزيرة.
ووقفة لتأمين خط سير التجار المسل