بعد غزوة تبوك حصل انتصار كبير للمسلمين، وحصل انحسار كبير لحركة النفاق، ولا شك أن العرب في كل الجزيرة العربية كانوا يراقبون الأحداث، وقد علموا أنه لا طاقة لهم أبداً بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلمت وأسلمت وفتحت أبواب مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جيشاً قوامه (٣٠٠٠٠) مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض -وهي الدولة الرومانية- للمرة الثانية في غضون سنة ونصف.
فهذا ما لا يتصوره العرب في أحلامهم فضلاً عن أن يكون واقعاً يرونه رأي العين؛ من أجل هذا بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك أخذت القبائل العربية قراراً شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعض هذه القبائل ليعلن الإسلام مقتنعاً به ومحباً له، وجاء بعضهم مسلماً؛ لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو ودها، ومنهم من جاء ليتفاوض ويطلب لنفسه شيئاً، ومنهم من جاء ليعقد عهداً ويظل على دينه.
إذاً: جاء الجميع ولم يستطع أحد منهم أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة، وبدأت الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضاً، ولذلك عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه بعد تبوك.
كان عدد هذه الوفود على الأقل ستين وفداً، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفد، ولن نستطيع أن نقف في هذه المجموعة على تفاصيل مقابلة الرسول عليه الصلاة والسلام لكل وفد من هذه الوفود، مع أنه فيها من الفوائد والعظات ما لا يقدر بثمن، ونحتاج إلى تفريغ جهد خاص ودراسات متأنية؛ لنقف على الدروس العظيمة التي نستخرجها من حوارات الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذه الوفود الكثيرة.