[سبب تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم بغنائم حنين]
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدولة الإسلامية تقف الآن على بركان خطير، فلو خطر على ذهن كل سيد من سادات العرب، وكل زعيم من زعماء القبائل المختلفة أن يثور وينقلب على الدولة الإسلامية، فإن هذا قد يؤدي إلى دمار شامل للدولة الجديدة؛ الدولة الجديدة لم تستقر بعد بصورة جيدة، وخاصة أن أموال وأملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت جداً، وكثر أتباع المسلمين، وليس هناك وقت كاف لتربية كل هؤلاء المسلمين الجدد.
فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لن يؤمن جانبهم إلا بترضية سخية ومجزية من الدولة الإسلامية، فلو أحسوا أن حالتهم المادية استقرت، وأن أموالهم كثرت، وأن وضعهم الاجتماعي تحسن بعد انتمائهم للدولة الإسلامية، فسيحبون هذه الدولة التي حققت لهم هذا الرخاء، ويحاولون بكل طاقة أن يدعموا هذه الدولة؛ ليستمر وضعهم في التحسن، وهؤلاء أصحاب مادة من البداية إلى أن يحسن إسلامهم بعد ذلك.
نعم، الإيمان الذي يكون سببه حب المال إيمان ضعيف، لكن قد يكون هذا في البداية، ثم إذا دخل في محاضن التربية الإسلامية يبدأ الإيمان في الرسوخ تدريجياً حتى يصبح الإيمان أغلى عنده من المال.
والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن النظام القبلي المترسخ في الجزيرة العربية منذ قرون يجعل لقائد القبيلة الكلمة العليا المطلقة في قبيلته؛ من أجل ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يشتري رضا هؤلاء الزعماء واستقرار هؤلاء الزعماء بالمال.
فعلاً هؤلاء الزعماء سوف يؤثرون تأثيراً إيجابياً على أتباعهم من القبائل المختلفة، ومن ثم هو يشتري استقرار الدولة الإسلامية، لكن هناك معوق لهذا الأمر، وهذا المعوق يحتاج إلى دراسة.
فالذين بذلوا الجهد في معركة حنين، والذين كانوا سبباً مباشراً من أسباب النصر هم قدامى المهاجرين والأنصار، وهؤلاء بفضل الله عز وجل ثابتون في الإسلام دون شك، لا يحتاجون لإغراء بالمال أو بغيره، وتاريخهم معروف جداً، ومواقفهم مشرفة وأياديهم بيضاء عن الإسلام والمسلمين.
وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يعطي عطاءً أكبر لأهل البلاء ولمن بذل جهداً زائداً في القتال، وعمل ذلك في أكثر من موقعة قبل حنين.
فهو لو أراد أن يكافئهم على جهدهم سيعطيهم من الخمس الذي تمتلكه الدولة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف المحايد، هل يعطي زعماء القبائل الذين أسلموا حديثاً ولم يبذلوا الجهد المطلوب في حنين، ولم يعودوا إلى الصف إلا بعد رؤية الأمور تتجه لصالح المسلمين؟ هل يعطي هؤلاء ليشتري استقرار الدولة الإسلامية، أم يعطي الأنصار والمهاجرين ليكافئهم على جهدهم؟ لقد عقد الرسول عليه الصلاة والسلام مقارنة بين الوضعين، واختار دون تردد الرأي الأول؛ لأن استقرار الدولة الإسلامية هدف تتضاءل إلى جواره الأهداف الأخرى، لو تزعزع هذا الاستقرار فسيدفع الجميع الثمن، سواء من قدامى المسلمين، أو ممن أسلموا حديثاً، الجميع سيعاني من هذا الاضطراب في استقرار الدولة الإسلامية.
ولا ننكر أن هناك ضرراً نفسياً ومادياً سيقع على الأنصار والمهاجرين، لكن الضرر الأكبر هو اضطراب الدولة الإسلامية وعدم استقرارها، ولتصديق قاعدة: دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين.
رأى الرسول عليه الصلاة والسلام أن شراء زعماء القبائل وسادتهم بالمال مقدم على مكافأة الأنصار والمهاجرين، بل وجد صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يعطي جزءاً لسادة القبائل وجزءاً للأنصار والمهاجرين؛ لأن هذا سيؤدي إلى نقص المعطى لسادة القبائل، وقد يستصغرونه أو يستحقرونه فلا يتحقق المطلوب، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: هؤلاء الزعماء قد لا يشعرون بشيء من التميز، ومن ثم قد لا يرضون تمام الرضا.
وأنا أعلم أن كلامي هذا قد لا يرضي عواطف المستمعين، لكن لاشك أنه يقنع عقول المستمعين، هذا الكلام عليه تطبيقات عملية كثيرة جداً سنراها بعد ذلك في الفتوح وعند مواجهة أحداث الفتنة، وفي مواقف كثيرة، ولاشك أن هذا هو الأفضل والأحكم؛ لأنه في الأساس اختيار نبوي أقره رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم ينزل وحي يعارض هذا القرار.
ونحن رأينا ممن عاصر هذا الموقف بعض الاستغراب وعدم الفهم، وكان ممن استغربه مؤمنون شديدو الإيمان كالأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وسنأتي لقصتهم في الدرس القادم إن شاء الله.
كذلك استغربه بعض الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وليسوا من السادة، ووصل استغرابهم إلى درجة غير مقبولة، من هؤلاء أحد الأعراب جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث جاء هذا الرجل وقال في غلظة: (والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله عز وجل فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينسب العدل في هذه القسمة له وحده، إنما قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) وهذا