[الآثار الإيجابية المترتبة على معاهدة صلح الحديبية]
تعالوا ننظر إلى معاهدة صلح الحديبية بعد أيام من حدوثها، تعالوا لننظر الخير الذي جاء من ورائها، فأصدق تصوير لها وأفضل تعبير لها هو ما اختاره لها رب العالمين سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١]، فهذا الفتح المبين له دلالات كثيرة جداً أعددت منها عشرة: أولاً: وضوح إيمان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ويكفي أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآناً، قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:٤] سبحان الله! فالله عز وجل شهد لهم بالإيمان وزيادة الإيمان بعد هذا الحدث العظيم: صلح الحديبية.
الأمر الثاني: من أعظم ثمرات صلح الحديبية: هو اعتراف قريش بالمسلمين كقوة ودولة، وهذا الاعتراف جاء من قريش وهي أعظم قبيلة عربية، فالميلاد الرسمي للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية هو صلح الحديبية؛ لأنه بعد هذا الاعتراف من قريش بدأت معظم القبائل الموجودة في المنطقة تعترف بالمسلمين، بل بدأت الدول في العالم تعترف بالمسلمين كدولة.
إذاً: هذا من أعظم ثمرات صلح الحديبية فعلاً، وكل الآثار التي ستأتي بعد هذا مترتبة على كون المسلمين أصبحوا دولة حقيقية معترفاً بها في المنطقة.
الأمر الثالث: هو الفتح المبين في انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، فالذين أسلموا في هاتين السنتين بعد صلح الحديبية وإلى فتح مكة من سنة (ست) أو أواخر سنة (ست) إلى أواخر سنة (ثمان) من الهجرة أكثر من الذين أسلموا خلال (تسع عشرة) سنة كاملة من الدعوة، فالدعوة الإسلامية أخذت (ثلاث عشرة) سنة في مكة المكرمة و (ست) سنوات بعد ذلك في المدينة المنورة إلى أن أتى صلح الحديبية، فالذين أسلموا في تسع عشرة سنة لا يتجاوزون (ثلاثة آلاف) شخص، بينما الذين أسلموا بعد هذا من أواخر سنة (ست) من الهجرة إلى فتح مكة خلال سنتين فقط قرابة (سبعة آلاف) شخص؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل مكة المكرمة عام الفتح بجيش قوامه (عشرة آلاف) مقاتل، غير النساء والصبيان الذين كانوا معهم، وكان المسلمون في صلح الحديبية (ألفاً وأربعمائة) شخص، وسائر الـ (ثلاثة آلاف) كانوا بالمدينة.
إذاً: تصور مدى الفتح المبين في سنتين فقط، تضاعف العدد ووصل إلى (عشرة آلاف) مقاتل، فهذا فعلاً فتح مبين.
الأمر الرابع: بعد صلح الحديبية مباشرة اطمأن الرسول عليه الصلاة والسلام إلى استقرار الأوضاع في المدينة المنورة، فأرسل إلى المسلمين الموجودين في الحبشة؛ لأن بعض المسلمين كانوا قد هاجروا إلى الحبشة في العام السادس من البعثة النبوية، وقعدوا في الحبشة (سبع) سنوات كاملة حتى الهجرة و (ست) سنوات كاملة من أيام المدينة المنورة، يعني: (ثلاث عشرة) سنة كاملة في داخل الحبشة لم يرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعد صلح الحديبية مباشرة وجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الفرصة أصبحت مواتية ليستفيد من جهود وطاقات المسلمين الموجودين في الحبشة، فأرسل إليهم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه ليستقدم هؤلاء، وبالفعل جاءوا مباشرة ووصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فتح خيبر كما سنذكر ذلك إن شاء الله في الدروس القادمة.
إذاً: الأمر الرابع: أضيفت إلى قوة المسلمين في المدينة المنورة قوة المسلمين الذين كانوا في الحبشة بعد غياب ثلاث عشرة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الخامس: قدوم المسلمين من القبائل المختلفة الأخرى، فمسلمو اليمن بدءوا يقدمون إلى المدينة المنورة، مسلمو بني حنيفة، ومسلمو بني كلب، ومسلمو بني كذا كذا وكذا، كل مسلمي قبائل العرب بدءوا يتحركون منها إلى المدينة المنورة، وقبل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يمكثوا في قبائلهم ولا يقدموا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم كانوا يقومون بالدعوة في قبائلهم، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الوضع في داخل المدينة المنورة لم يكن مستقراً قبل ذلك، أما الآن بعد صلح الحديبية فقد فتحت الأرض للمسلمين فزادت قوتهم بعد هذا الصلح.
الأمر السادس: تعاهدت قبائل كثيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية، وما كانت هذه القبائل تجرؤ على هذا الأمر قبل هذا الصلح، وأول هذه القبائل قبيلة خزاعة، وبعدها بدأت القبائل تتوافد على المدينة المنورة.
الأمر السابع: هو أمر خطير جداً وغريب جداً، وسنفرد له إن شاء الله درساً كاملاً، وسيكون موضوع الدرس الذي سيأتي إن شاء الله، وهذا الأمر هو بداية المراسلات النبوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عموم زعماء وقادة العالم في كل مكان، فقد راسل كسرى فارس، وراسل قيصر الروم، وراسل زعماء العرب في كل مكان يدعوهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد وهو الإسلام.
وقبل صلح الحديبية ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة واحدة إلى زعماء العالم، فهذا يدل على التغير الهائل في مسار الدعوة، والانطلاقة العظيمة لل