الثانية: في نفس الوقت الذي جاء فيه خبر تجمع بني أسد للهجوم على المدينة المنورة، تجمعت بعض القبائل الأخرى بقيادة رجل اسمه خالد بن سفيان الهذلي لغزو المدينة المنورة أيضاً، وهو من أعظم وأكبر وأشرس المقاتلين العرب، كان رجلاً ضخماً، وله قدرات قيادية هائلة، جمع قبائل هذيل كلها، وهي بطون كثيرة جداً.
وعندما وصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالأمر، وأرسل إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وذكر له قصة خالد بن سفيان الهذلي، وطلب منه أن يذهب إليه ويقتله؛ لأنه هو الرأس المدبر، ولو قتل فإنه من الصعب أن تتجمع هذه القبائل، وبالتالي يتجنب الرسول عليه الصلاة والسلام مأساة كبرى قد تتعرض لها المدينة المنورة، وظهرت هناك مشكلة، وهي أن عبد الله بن أنيس لم ير من قبل خالد بن سفيان الهذلي ولا يعرفه، فقال:(يا رسول الله! انعته حتى أعرفه)، فأعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام علامة غريبة، قال:(إذا رأيته وجدت له قشعريرة) يعني: حين تراه ستصاب بالرعب، فقال عبد الله بن أنيس:(يا رسول الله! ما فرقت من شيء قط) أي: ما خفت من شيء أبداً، فقال له صلى الله عليه وسلم:(بلى، آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته).
ذهب عبد الله بن أنيس ودخل المنطقة التي فيها قبائل هذيل، ومن بعيد رأى خالد بن سفيان الهذلي يقول عبد الله بن أنيس:(فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله).
أخذ عبد الله بن أنيس يفكر كيف يمكن أن يغتال هذا الرجل الضخم، فقرر أن يذهب إليه ليحتال عليه بحيلة، وكان ذلك بعد وقت دخول صلاة الظهر، وخشي أن يفوته وقت صلاة الظهر، ولكنه إذا صلى الظهر قد يراه فيكتشف أمره؛ لذلك اجتهد عبد الله بن أنيس اجتهاداً غريباً، وبعد ذلك أقر الشرع هذا الاجتهاد، وهو أن يصلي وهو يسير إليه، قال:(فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود) يعني: يشير برأسه للركوع والسجود وهو يمشي، سبحان الله! وأصبحت هذه الصلاة معروفة في الفقه بصلاة الطالب وصلاة المطلوب، أي: الذي يَطلُب رجلاً للقتل والذي يُطْلَب للقتل.
قال:(فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ - أي: خالد يسأل عبد الله بن أنيس - قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لهذا، قال: أجل.
أنا في ذلك، قال عبد الله: فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركته، وعدت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما رآني قال قبل أن أتكلم: أفلح الوجه.
قلت: قتلته يا رسول الله! قال: صدقت، ثم قام معي صلى الله عليه وسلم، فدخل بيته فأعطاني عصاه، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس! قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ فقال: فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة) يعني: ستكون هذه العصا حجة له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كافأني يوماً على عمل عظيم قمت به لصالح الأمة الإسلامية.
ولما مات عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه أمر أن تدفن معه هذه العصا، وبالفعل وضعت معه في كفنه رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: حصل للمسلمين أزمتان: أزمة بني أسد، وأزمة هذيل، وخرج المسلمون بفضل الله من هاتين الأزمتين بسلام.