[خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى حمراء الأسد وأثر ذلك على المسلمين والمشركين]
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج، وطبقه مباشرة على المسلمين، بل عمل عملاً في منتهى الرقي، فقد خرج بالمسلمين للجهاد في سبيل الله في اليوم الثاني مباشرة من غزوة أحد بما فيهم من جراح وآلام، سواء كانت آلاماً جسدية أو نفسية.
خرج بهم للجهاد في سبيل الله، ولمتابعة قريش ومطاردتها، منتهى التحميس والتحفيز للعمل لله إلى آخر لحظة، وقال بعض المسلمين ممن لم يشارك في أحد: (يا رسول الله! نخرج معك، قال: لا، لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، فالناس الذين قاتلوا في أُحد هم الذين يخرجون، وكأنه يقول لهم: أنا واثق فيكم، وأعلم أن هذه غلطة عابرة ولن تتكرر، بل هي هفوة من عظماء ولا يمكن لها أبداً أن تتكرر، فيا لها من ثقة كاملة في الجيش المسلم مع ما به من جراح! وخرج من بقي من المسلمين، خرج من ثبت وخرج من فر وعلم أن الله قد غفر له، خرجوا جميعاً إلى منطقة تسمى: حمراء الأسد، وهي تبعد حوالي (٨) أميال من المدينة المنورة، وعسكروا هناك في انتظار الجيش الكافر، وبدءوا يستطلعون الأخبار، فعلموا أن الجيش الكافر موجود على بعد (٣٦) ميلاً من المدينة المنورة عند منطقة اسمها: الروحاء، وقد كان الجيش الكافر وقف وقفة هناك، وقال: نحن لم ننتصر إلا انتصاراً جزئياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر كلهم على قيد الحياة، وجيشه في المدينة المنورة ما زال موجوداً، فمن الممكن أن نرجع ونحاربهم مرة أخرى، نغزو المدينة المنورة، ونستأصل شأفة المسلمين وهم في حالة ضعفهم.
كان الكفار يفكرون في ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام يفكر أيضاً في مطاردتهم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واقعياً، فقد أخذ المسلمين معه، لكنهم في حالة من الضعف والتعب والجراح والآلام، فهو يعلم أن الموقعة ستكون صعبة، ويريد أن يرفع من معنوياتهم، لكن لا يريد أن يضيعهم، ولا يريد أن يهلكهم في موقعة قد تكون خاسرة؛ لذلك حاول صلى الله عليه وسلم أن يخذل صف المشركين ويرهبه، فلقي شخصاً اسمه: معبد بن أبي معبد الخزاعي وبعثه برسالة إلى أبي سفيان، فقد كان أبو سفيان يريد أن يرجع إلى المدينة المنورة ليغزوها، وكان صفوان بن أمية وبعض المشركين معارضين له، وبينما هم في هذا الحوار إذ دخل عليهم معبد بن أبي معبد.
فقال لهم: محمد قد خرج لكم في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحركون عليكم تحركاً، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
فخاف أبو سفيان وقال: ويحك ما تقول؟ قال معبد: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم.
قال معبد: لا تفعل إني ناصح، وهكذا أُحبط أبو سفيان وانهارت معنويات الجيش المكي كله، وهذا يؤكد أنهم يألمون كما يألم المسلمون: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤]، فلم يكن انتصاراً مبهراً حققوه في أحد، بل وقفوا خائفين مع أنهم (٣٠٠٠) شخص، وكان المسلمون كلهم (٧٠٠) شخص استشهد منهم (٧٠)، بالإضافة إلى أنهم ضعفاء وجرحى، ومع ذلك لم يستطع أبو سفيان أن يتحرك، بل إنه بعث شخصاً لكي يخذل الجيش الإسلامي، أرسل رسالة مع ركب من عبد القيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يخذله قدر المستطاع.
قال لهم: أبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فوصلت الرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصر الصحابة جميعاً على القتال، مع أن المسلمين (٦٣٠) على أقصى تقدير، والمشركين (٣٠٠٠)، وهكذا خرج المسلمون من أزمتهم النفسية تماماً، وقهروا الانكسار الذي كانوا فيه، وتحولوا إلى شجعان وأبطال مجاهدين في سبيل الله يطلبون الموت من جديد، لا يخالفون أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما عرف المشركون ذلك رجعوا بسرعة إلى مكة، وأنزل الله عز وجل في ذلك قرآناً، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:١٧٢]، أي: استجابوا لدعوة الرسول للخروج إلى حمراء الأسد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ