للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موت خديجة وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم]

في هذا الجو من الأحزان والهموم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصيبة جديدة وهم جديد (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الابتلاءات التي من الممكن أن تحصل لإنسان من فقر وجوع، وضرب وتعذيب، وسخرية، وحروب وجهاد، ومن فقد للأم وللأب وللجد والعم، وفقد للأولاد وللأصحاب، وترك للديار كل الابتلاءات، وفي هذا الوقت مع كل الهموم التي يعيشها سيدخل في ابتلاء فقد الزوجة، السند العاطفي الجميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت السيدة العظيمة الجليلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

كانت خديجة نعمة من نعم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير متاع الدنيا له، كانت الصدر الحنون، والرأي الحكيم، قضت عشرة طويلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دامت (٢٥) سنة، في كل هذه السنين لم تختلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تطلب منه شيئاً لنفسها، وعاشت تساعده بكل طاقتها، كانت كل سعادتها أن تراه سعيداً، فقد كان يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول في حب عميق: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها) بعد كل هذا الارتباط الوثيق أذن الله عز وجل بالرحيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥]، ماتت خديجة رضي الله عنه وأرضاها.

موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، فالرجل مسكين بغير زوجته، وكلما طالت العشرة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالك لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض.

هذه من أشد المصائب التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)، يعني: أنها لم تقارن بنساء قريش أو حتى بنساء زمنها، بل بنساء العالمين، فهذه واحدة من أعظم أربع نساء في الخلق، درجة عالية من السمو.

هذه السيدة بهذا القدر وبهذه القيمة والمكانة فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركته بعد وفاة أبي طالب بأيام، وفي روايات قبل وفاة أبي طالب بأيام، أي: أن المصيبتين كانتا في وقت قريب، وخلفتا في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً كبيراً، وكان يحتاج إلى من يسمع منه مشاكله وهمومه ويتحدث معه، كان يقول لها: قريش عملت كذا وكذا! فتقول له: لا بأس فالله معك، وربنا سوف ينصرك، أو يجد ابتسامة تخفف من أحزانه.

كل هذه الأحداث تحصل وعمره خمسون سنة، وقد وهن العظم منه، وكثرت الهموم، وتشعّبت المشاكل، فليست القضية قضية موت أبي طالب ولا السيدة خديجة، ولا الإيذاء الذي يتعرض له من قريش.

إذا كان يحصل معه هكذا من قريش فأكيد أن المسلمين الآخرين سيحصل معهم هذا.

كما أنه كان يحمل هم المستضعفين ويشعر بهم ويخاف عليهم، ويحمل هم مشاكل المسلمين الذين كانوا في الحبشة أكثر من مائة معهم أولادهم، ولا يعلم شيئاً عن وضعهم.

هذه جميعها مشاكل وهموم جعلت ذلك العام يُطلق عليه بحق: عام الحزن.