[ظهور الطائفة التي رأت الكره في القتال ولم تر الخير في باطنه]
النقطة الثالثة: عموم المؤمنين قبلوا الأمر دون جدال، وقبلوا القتال في سبيل الله سواء كان مأذوناً به أو مفروضاً عليهم، لكن هناك طائفة من المؤمنين عندما نزل هذا الفرض للقتال رأت الكره ولم تر الخير في باطنه، وأتاها التكليف في لحظة من لحظات ضعف الإيمان، ولم يكن إيمانها بالقوة التي تدفع إلى العمل وإن كان مع الكراهية، وهذه الطائفة ليست منافقة بل مؤمنة، لكنها فترة ضعف وفترة فتور فماذا حصل؟ انطلق هؤلاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: لو تأذن لنا في تأجيل القتال، قالوا ذلك لأنهم خائفون من المشركين واليهود، خائفون من اتحاد هذه القوى على المسلمين، والمسلمون قلة.
ونحن قد نسمع هذا الكلام ونستغرب: كيف يكون هذا الكلام في الصحابة وهم خير الناس وأفضل القرون؟ لكن الحمد لله أن هذا حدث في العهد النبوي؛ لنعرف كيف يتم التعامل مع مثل هذه المواقف؟! ما هي وسائل علاج حالات الضعف الإيماني التي تطرأ على نفس المؤمنين أحياناً؟ الغريب جداً أن هذه الطائفة التي ترددت في أمر القتال لخوفها عندما فرض عليها القتال، كانت هي نفس الطائفة التي كانت تطلب القتال في وقت منعه في أيام مكة.
كان القتال في مكة ممنوعاً؛ لأن قوة المسلمين لم تكن تسمح لهم بذلك، وفصلنا في هذا الأمر في دروس العهد المكي، هذه الطائفة كانت تريد الإسراع برفع الظلم عن الكاهل ولو بالقتال الصعب، أي: لم تكن خائفة! لكنها كانت تعاني من قلة الصبر، والمرحلة كانت تتطلب صبراً من نوع خاص، ألا وهو الصبر على عدم القتال.
أما المرحلة الجديدة، فإنها تحتاج إلى صبر من نوع ثان، وهو الصبر على القتال، سبحان الله! فهؤلاء يعانون من عدم الصبر في مرحلة مكة على عدم القتال، وعدم الصبر في مرحلة المدينة على القتال، لكن هذه الطائفة لم تكن منافقة أبداً، إنما كانت مؤمنة، لكن الإنسان قد يعتريه أحياناً بعض الضعف والقصور في فترة من فترات الحياة، أو ظرف من ظروف الحياة.
وليس هنالك خطر في أن يكون هناك بعض المسلمين على هذه الصورة ما دمنا نقر لهم بالإيمان، لكن الخطر الحقيقي أن تكون الطائفة هذه هي الطائفة الأعم والأشمل في الأمة الإسلامية، أو أن نفشل في علاج هذه الطائفة، فهذا الذي لا نريد أن نقع فيه.
في هذه الطائفة نزل قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:٧٧] في فترة مكة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:٧٧] هذه فترة المدينة {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:٧٧].
فهذه الخشية التي تسللت إلى قلوبهم ليست لضعف يقينهم في أن الله عز وجل قادر على نصرتهم، لكن لأن الدنيا تسللت إلى قلوبهم، ومن ثم حرصوا على الحفاظ عليها، وخافوا من فقدانها.
وفي هذه اللحظة من لحظات ضعف الإيمان وغياب الرؤية الصحيحة، نسوا أنهم لن يؤخروا أبداً عن لحظة موتهم، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، نسوا أن نعيم الآخرة لا يقارن أبداً بنعيم الدنيا القليل، ومن ثم لا يجوز أبداً للمؤمن الفاهم الواعي أن يضحي بالآخرة في سبيل تحصيل الدنيا، ولو حاز الدنيا بكاملها.
من أجل هذا تعالوا نر العلاج الرباني وهو يركز على معنى أن الموت محدد في ميعاد لن يقدم ولن يؤخر، معنى أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وأن الآخرة هي كل شيء، قال الله عز وجل تعقيباً على هذه الآيات: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:٧٧]، يعلم الرسول عليه السلام كيف يعالج هؤلاء، ويعلمنا بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٧ - ٧٨].
ففي داخل المدينة أو في خارج المدينة سواء كنا في قتال أو في غير قتال سيأتي الموت في اللحظة المحددة.
فلما ذكرت هذه الطائفة عادت إلى الله عز وجل ولم يتخلف منها أحد، وهذا دليل على أن الطائفة كانت مؤمنة، لكن حصل هذا الأمر لنعرف كيف يكون علاجه.
هذه كانت النقطة الثالثة.