عادة في المفاوضات يناقش كل بند على حدة، فهذا البند نوافق عليه، وهذا البند مرفوض، وهذا فيه تعديل، هذا الكلام يحصل عادة في أي مفاوضات سياسية، لكن نحن قلنا قبل ذلك: إن الأنصار شيء آخر، الأنصار هم أنصار، فماذا قالوا؟ قام البراء بن معرور رضي الله عنه يتكلم عن وفد الأنصار، وقد كان رئيس الوفد المسلم، مع العلم أن البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه لم يسلم إلا منذ ثلاثة أيام، أسلم وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة، لكنه كعادة الأنصار ولد إيمانه عملاقاً.
قال البراء بن معرور رضي الله عنه:(والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا -يعني: نساءنا- فبايعنا يا رسول الله! -وانتبه فهو الذي يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم- فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر) يعني: يشجعه على البيعة، أترون إلى مدى اشتياق الأنصار للبيعة على الجهاد؟ هذا هو الجيل الذي سينصره الله عز وجل، لكن وأثناء كلام البراء اعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، أحد الصحابة الأجلاء القدماء الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى، قال:(يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -أي: بيننا وبين اليهود عهوداً- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟).
الحقيقة أن موقف الأنصار خطير، فهم عقدوا معاهدات مع اليهود، وسيقطعونها، لكن ما الذي سيحصل لو أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتشر ووضعه استقر هل سيرجع مرة أخرى إلى مكة؟ وإذا رجع إلى مكة كيف سيكون وضعهم مع اليهود؟ قد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: كيف تفترض أنه ممكن أن يتركك وأنت محتاج له؟ لكن حقيقة كلام أبي الهيثم كان بمثابة التحميس والدفع للأنصار بالمبايعة، فهو متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتركهم، لكنه يخاف أن أحد الأنصار المشاركين في البيعة يفكر هذا التفكير؛ فيكون خائفاً من اليهود على مستقبل المدينة، فلو أن أبا الهيثم رضي الله عنه أثار هذه النقطة في هذه اللحظات سيغلق كل أبواب الشيطان، وسيريح الأنصار، من أجل ذلك تكلم بمثل هذا.
تبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال:(بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!) إن قدر القيادة لا ينقص لو أن أحداً من الجنود اعترض على نقطة ما يريد التوضيح، والقيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل على العكس، القيادة الواعية لا تخيف الناس أو تكتم أفواههم، بل المفروض أن تشجع كل الناس أن يقولوا كل ما في صدورهم، وحينها سيشعر الناس أن قيادتهم ليست مفروضة عليهم، مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(أنا منكم وأنتم مني).
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يعلمنا أن أي إنسان قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر لابد أن يخطئوا، وليس شرطاً أن يكون مخطئاً كذلك، لكن نريد معرفة وجهة نظره، نستفسر، نتعلم، نضيف، نحذف، نعدل من أجل أن نصل إلى الأفضل، هذه هي العلاقة السليمة بين القائد والجند، وكذلك إذا أحس الجند أن القائد معهم في نفس المشكلة يشكو مما يشكون منه، يتألم مما يتألمون منه سيبذلون قصارى جهدهم، لكن على النقيض من هذا؛ لو أنهم أحسوا بتكبر القائد، وبسعادته وقت حزنهم، وترفهه وقت بؤسهم، وأمنه وقت خوفهم، وراحته وقت تعبهم، لو شعروا بهذه الأشياء كلها فمن المستحيل أن يعملوا بحماسة وجدية، لأنهم فقدوا مصداقية القائد، والقدوة فيه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال في منتهى الصدق والتعاطف مع أبي الهيثم والأنصار:(بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، فتشجع الأنصار عندما سمعوا هذه الكلمات، وقاموا مسرعين إلى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حصلت معارضة أخرى بعد هذا الكلام، قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يخاطب قومه قبل أن يبايعوا، وقال لهم:(هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، فقال العباس بن عبادة: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس -يعني: كل الناس-، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم -يعني: لو أسلمتموه- خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو -والله- خير الدنيا والآخرة).
العباس بن عبادة أيضاً من السابقين، ويعرف جيداً علامَ يبايع، لكنه يخاف أن يكون أحد الأنصار غير مستوعب لهذه التضحيات كلها، فيحاول أنه يوضح الرؤية على قدر استطاعته للأنصار، فرد عليه الأنصار وقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل ال