[قيام مالك بن عوف بتوحيد قبائل هوازن لمقاتلة المسلمين]
كان من عادة العرب في ذلك الوقت أنهم يعيشون حياة التفرق حتى في بطون القبيلة الواحدة، وما أكثر ما حدثت الحروب -كما ذكرنا- في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يقولون أحياناً: على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا.
وقبيلة هوازن كانت تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، لكن في زمنها كله ما توحدت في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشت حياة الفرقة كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائماً كلما بعدوا عن الإسلام، لكن ظهر في قبيلة هوازن في هذه الفترة وهي الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة وغيرت كل شيء، هذه الشخصية هي شخصية مالك بن عوف النصري من بني نصر من هوازن، وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ.
فمن هو مالك بن عوف هذا؟ مالك بن عوف كان شاباً لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، لكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، عنده علم كبير جداً بالخطط العسكرية وبالفنون القتالية، وكان خطيباً مفوهاً له قدرة كبيرة جداً على التأثير على الناس، وكان يتميز بقدرته الفائقة على الحشد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، كانت لديه طاقات هائلة، لكن للأسف كل طاقاته هذه كانت موظفة في الشر.
بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى تقريباً التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة، وهذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، ومع أنه من بني نصر ومعروف أن ثقيفاً هي أكبر وأعز وأعظم قبيلة من قبائل هوازن ومع ذلك قبلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري.
لقد جمع مالك بن عوف منهم أكثر من (٢٥.
٠٠٠) مقاتل، وهذا أكبر رقم تجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة، جيش هائل، فهو جمع هذه الأعداد الكبيرة باسم القبيلة: نحن من هوازن ومحمد من قريش، هذا هو المنطق مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى أبداً إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس كان العدو الأكبر للرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفراداً من كل قبائل العرب، والجانب الأعظم من جيش فتح مكة لم يكن من القرشيين، كان من أوس وخزرج وأسلم وغفار والأزد ومزينة وجهينة وغطفان وبني سليم وبني تميم وغير ذلك من الفروع القريبة والبعيدة جداً من قريش، وغطفان وبنو سليم هم أكثر قرباً لهوازن كانوا في جيش الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فتح مكة، مع كل ذلك إلا أن المحفز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف هو قضية القبيلة، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مقدم على الحق وعلى العدل وعلى القيم وعلى المثل العليا وعلى أي شيء، فنفس فكرة القومية التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، ففكرة القومية أو فكرة الوطنية هي تقديم مصلحة القوم أو الوطن أو العنصر بغض النظر عن الحق، إذا خاض الوطن أو القوم حرباً ظالمة فأنا معه؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل، هذا منطقهم.
إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع قانون شرعي أو عرف دولي أو قاعدة أخلاقية يترك القانون الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية وتقدم مصلحة القوم أو مصلحة الوطن.
هذا الكلام لا وزن له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك أن حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلامياً، لا، بل على العكس حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألا تكون على حساب الدين والحق والعدل، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:٢٤] ماذا يحصل؟ {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤].
في هذه الآية الجامعة وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى أن تقديم الأهل والعشيرة، وهم القوم، وتقديم المساكن وهي الوطن، أن تقديم هذه الأشياء على أمر الدين هو نوع من الفسق، ومن فعله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين سبحانه وتعالى، والعقاب مخوف جداً، حتى إن الله سبحانه وتعالى أخفى هذا العقاب ولم يعينه لزيادة الرهبة، قال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٤] لكن ليس معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والعشيرة أو القوم والقبيلة والوطن والتجارة مذموم، حاشا لله، ليس هذا هو المعنى مطلقاً، بل أمرنا الله عز وجل أن نصل آباءنا وأ