[تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك إلى المدينة مع المخلفين]
وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام، ولا بد لنا من وقفة، أين القتال الضروس الذي تخيله المسلمون يوم خرجوا؟ أين الفتنة الرهيبة التي توقعها الخارجون في سبيل الله؟ أين الامتحان الدقيق الذي سيختبر فيه الصادق والكاذب والمؤمن والمنافق؟ ألم نقل قبل ذلك: إن تبوك امتحان عسير للمسلمين! وتم الامتحان فعلاً، لكن تم في المدينة المنورة على بعد (٧٠٠) كيلو متر من المكان المتوقع للامتحان، لم يكن الامتحان في تبوك كما توقع الجميع، لكن الامتحان كان في المدينة المنورة قبل الخروج إلى تبوك، الامتحان كان عبارة عن القدرة على أخذ قرار الجهاد، من تغلب على نفسه وعلى ظروفه وعلى شهواته وعلى المعوقات التي في حياته، وعلى شياطينه وعلى أقوال المرجفين، من تغلب على كل ذلك وأخذ قرار الجهاد نجح يوم أخذ هذا القرار، حتى وإن لم يحدث بعد ذلك جهاد، ومن فشل في الاختبار فهو الذي هزم داخلياً، فلم يستطع أن يأخذ هذا القرار، ولم يستطع أن يخرج من أزمته النفسية، ولم يستطع أن يتجاوز جبنه المقعد، قد تكون نجاتك في قرار تأخذه، فإن أخذته كفاك الله عز وجل ما كنت تتوقع من مصائب وإيذاء وألم، قال تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}[الأحزاب:٢٥]،ونسأل الله عز وجل الثبات عند الفتن.
لما وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وعرف الناس الآثار الحميدة والنتائج العظيمة لهذه الغزوة المباركة جاء إليه كل من تخلف عن الجهاد بغير عذر ليعتذر منه، وكان المعتذرون فريقين في الأساس: الفريق الأول: فريق المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، ووقع التخلف منهم كهفوة عابرة أو خطأ غير متكرر، وهؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا ولم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام اعتذارهم حتى نزل فيهم وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ونزل بعد ذلك الوحي بمقاطعة هؤلاء الثلاثة عقاباً لهم، وتحذيراً لكل المسلمين أن يقعوا في مثل خطئهم وتحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الثلاثة، وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وكانت المقاطعة هذه لمدة خمسين ليلة كاملة، ثم تاب الله عز وجل بعد ذلك عليهم وأوقفت المقاطعة.
هذه قصة فيها دروس وعبر كثيرة جداً، وسوف يتم الحديث عنها بالتفصيل بإذن الله في مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين.
الفريق الثاني: كان فريق المنافقين سواء من أهل المدينة أو من الأعراب حول المدينة، وهؤلاء جاءوا يحلفون أنهم كانوا معذورين، ويعدون أنهم سيخرجون بعد ذلك مع المسلمين في أي قتال قادم، وهؤلاء قيل منهم صلى الله عليه وسلم الاعتذار، وأجرى أمورهم على الظاهر، ولم يقم عليهم أي تعزير من أي نوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه ليس فيهم أمل، فقلوبهم فاسدة، وأعينهم لا تبصر، لذلك فإن التعزيز لا ولن يأتي بنتيجة معهم، فلا داعي له، وقد يستغرب بعض الناس ويقول: لماذا أقام الرسول عليه الصلاة والسلام التعزيز أو العقاب على المؤمنين الصادقين ولم يقمه على المنافقين؟ نقول: المنافقون لم يعترفوا بالذنب، وقالوا: عندنا أعذار، فقبل منهم ذلك صلى الله عليه وسلم، أما المؤمنون الصادقون فقد اعترفوا بذنبهم، وقالوا: لقد أخطأنا، فكان لا بد من عقاب، والعقاب لم يكن من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن أنزله رب العالمين سبحانه وتعالى.