أول شيء فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما عاد إلى المدينة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمع بهذا الدين الجديد الإسلام؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي نزل لأهل الأرض كلهم، يقول الله سبحانه وتعالى في الكتاب:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:(أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي -وذكر منها-: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة).
ونحن لابد أن نفهم هذا الموضوع جيداً، ونفهم أن علينا دور توصيل الإسلام إلى كل بقعة في العالم، وليس هذا تفضلاً منا، بل واجباً علينا.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أول أيام الدعوة يدرك عالمية الدعوة، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة، يبشرهم أن لهم دوراً تجاه العالم، وكان يقول لهم:(قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم).
كانت القضية في ذهنه واضحة جداً، لكنه لم يشرع فيها بخطة وبنظام إلا بعد صلح الحديبية، وقد يقول شخص: لماذا لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل إلى عموم ملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة في مكة، أو من أول أيام المدينة المنورة، وقد كانت هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك في هذه التعاملات لم يخطط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت؟ تفسير ذلك في كلمة واحدة هي الواقعية، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعية المنهج، فإرسال رسالة يدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد ولو أن أحدهم سمع به، فماذا سيسمع؟ سيسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين الجديد، إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، فمن هذا الذي سيقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة ويبدل عقيدة لأجل مجموعة من الضعفاء في قرية صغيرة من قرى العالم؟! ولقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي رحمه الله للإسلام، بل إنهم لم يعرفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص ومحاولته إثارة النجاشي على المسلمين لما شرح جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي الإسلام، وحتى بعد هذا الشرح لم يدع جعفر بن أبي طالب النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد، مع أنه كان يشعر أن هناك ميلاً في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يدعه صراحة إلى الإسلام، لماذا؟ لنفس الكلمة التي قلناها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا واقعيين إلى أقصى حد، لا يصح ولا يجدي لقائد جماعة صغيرة ضعيفة أن تراسل كبار زعماء العالم لتدعوهم بتغيير معتقداتهم وتبديل أديانهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو قانون جديد، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الدعوة المبكرة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، والدليل الشرعي على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله صلى الله عليه وسلم، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولاً إلى كل دولة من دول العالم من أول أيام الإسلام، لكن لم يفعل؛ لأنه لا فائدة من هذا الإرسال.
أما الدليل العقلي على ذلك فإنه قد يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها.
أما افتراض أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الزعماء ويضحون بملكهم وسلطانهم من أجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد جداً لا يرقى أبداً إلى درجة الواقعية، كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع جداً، كان جميع العالم يسمع عن قريش، فقريش القبيلة العربية الكبيرة العزيزة، وإن لم تكن بقوة فارس والروم، ولم تكن تحلم بهذا الشيء، لكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، بل إنه كانت لها علاقات اقتصادية وسياسية مع معظم القوى الموجودة في العالم آنذاك، من أجل ذلك اعتراف قريش بدولة الإسلام كدولة لها سيادة يعتبر أهم نقطة لإعطاء شرعية لهذه الدولة الجديدة؛ الدولة الإسلامية.
وكل دول العالم لن تتعامل مع هذا الكيان الجديد -الدولة الإسلامية- إلا بعد اعتراف قريش به، أما قبل ذلك فالمسلمون في نظر العالم عبارة عن جماعة غير شرعية خرجت عن منهج الدولة الأم قريش، وبالتالي لا يمكن التعاون معها إلا من قبل المعادين لقريش، ولم يكن أحد يعادي قريشاً لا في الجزيرة ولا في العالم في ذلك الوقت، من أجل ذلك الرسول عليه