[إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وولديه يزيد ومعاوية من غنائم حنين]
تعالوا بنا ننظر ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الخمس مع زعماء مكة وقادة القبائل، مع العلم أن هذا الخمس يمثل رقماً كبيراً جداً من الغنائم، فالخمس كان (٤٨٠٠) من الإبل، و (٨٠٠٠) شاه، و (٨٠٠) أوقية من الفضة، و (١٢٠٠) من السبي.
فكان أول لقاء مع زعماء مكة وأولهم أبو سفيان زعيم مكة الأول، فقد حكم مكة ست سنوات متصلة بعد مقتل أبي جهل، منذ غزوة بدر حتى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة، وهو قد حصلت له مواقف مهينة في غضون الشهرين السابقين بدءاً من زيارته للمدينة المنورة كما رأينا قبل ذلك لمحاولة إطالة مدة الحديبية، ومروراً بموقفه في الطريق من المدينة إلى مكة، وكان إيمانه في ظروف قاسية جداً على قلب أي زعيم، وكذلك عند دعوته أهل مكة إلى عدم الدفاع عنها وفتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون قتال، وانتهاءً بنزع زعامة مكة منه، وإعطاء هذه الزعامة لأحد الأمويين، كان في مثل عمر أولاده وهو عتاب بن أسيد رضي الله عنه.
لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقدر كل هذه المعاناة التي يشعر بها أبو سفيان، كما أنه يعلم أنه لن يرضى بقليل من العطاء؛ لأنه من كبار زعماء مكة؛ من أجل هذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام عطاء ضخماً.
جاء أبو سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في وادي الجعرانة، وحين رأى أبو سفيان الغنائم الهائلة قال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً.
يعني: صرت أغنى رجل فينا.
فقد كان يلمح بوجود المال الكثير، فتبسم صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير نافع، قال: أعطني يا رسول الله من هذا المال.
هكذا تصريحاً.
لا تتعجبوا؛ فهذه كميات هائلة من المال، ولعله إن لم يصرح أن توزع على غيره وعندها سيندم حيث لا ينفع الندم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال زن لـ أبي سفيان أربعين أوقية من فضة، وأعطه مائة من الإبل.
بلال الذي كان يباع ويشترى ويعذب هو الآن المقرب من زعيم الدولة، وهو الذي يعطي هذا وذاك من الزعماء السابقين، فكان أبو سفيان ينظر إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه، فكل هذه الأغنام، وكل هذه الإبل، وكل هذه الفضة تصبح ملكه، في لحظة واحدة أصبح أبو سفيان يمتلك أربعين أوقية من الفضة.
يعني: حوالي كيلو ونصف فضة، ومائة من الإبل، وهذا رقم ضخم هائل، فدية القتيل مائة من الإبل، وهذا هو نفس الرقم الذي رصدته قريش لمن يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام أو الصديق رضي الله عنه حياً أو ميتاً عند الهجرة إلى المدينة، ومع أن هذا رقم مهول إلا أن أبا سفيان وجد نفسه يطلب المزيد قبل أن يفنى هذا المال الغزير، قال أبو سفيان: ابني يزيد يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فقال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، وهذان كانا مسلمين من أبنائه، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فذهل أبو سفيان وقال في صدق -واسمعوا هذا الكلام الذي سيقوله-: إنك الكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً.
تشعر بالصدق في كل كلمة من كلماته، ما الذي غيره من رجل يشك في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى رجل مؤمن مادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي ثبته بعد تردد؟ ما الذي أسعده بعد حزن؟ أليست الثلاثمائة من الإبل والمائة والعشرين أوقية من الفضة، وما هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟ وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟ وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية، وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة على الإيمان.
صحيح أن المال حلو خضر، لكن يتصاغر جداً إلى جوار هذه المعاني، فهذه كانت نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام، من أجل هذا كان يعطي صلى الله عليه وسلم بلا حساب، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان يعطي وكأن المال لا ينتهي، وانتهت قصة أبي سفيان مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وجاء غيره وغيره وغيره.