هؤلاء هم أبرز ملاحدة الغرب الذين يظهر أثرهم في كتابات ملاحدة الحداثة في الغرب ثم في آثار أتباعهم في الحداثة العربية، علمًا بأن هؤلاء لا يطرحون أفكارهم الإلحادية في شكل فلسفيّ كما يطرحها هؤلاء الذين ذُكرت أسماؤهم وإنّما تجدهم ينفثون ذلك في سموم كتاباتهم الأدبية، شعرية أو قصصية أو في المقالات والكتابات النقدية؛ وذلك أن الأتباع -في الغالب- يكونون أقل عمقًا من متبوعيهم وأكثر حماسة منهم، وهذا ماسوف نراه في النماذج الحداثية العربية.
غير أنه قد يدّعي بعضهم أنه لا ينكر وجود اللَّه تعالى وربوبيته، وأنه يقر بذلك، وإذا أخذنا هذا بشيء من التسليم فإنه ذلك لا يعني أن المقر بالربوبية قد انتفت عنه الانحرافات الاعتقادية الأخرى ما دام أنه ينكر ألوهية اللَّه تعالى كليًا أو جزئيًا أو يستخف باللَّه تعالى أو برسله أو بكتبه أو بأي شيء من شرعه أو أخباره.
ثم إننا إذا تأملنا هذه الدعوى وجدنا أنها لا تخرج عن التبعية لمذاهب غربية أخرى قد لا تعد في مفهوم الغرب ومعاييره من المذاهب الإلحادية، وهو ما يسمونه "المذهب الربوبيّ" الذي بدأ في القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا، بعد أن ظهرت المذاهب ذات الصبغة الإلحادية الصريحة، وكان في مقابلها المذهب الدينيّ الكنسيّ النصرانيّ الذي قاوم بشدة هذه التوجهات الإلحادية، لكن موجها كان أكبر من سفينته المفككة المنخورة، والرجة الفكرية التي حدثت تبعًا للصراع بين العلم وحقائقه والكنيسة وزيفها وخرافاتها كانت أكبر من أن تحتمله جدران الكنيسة المتصدعة، ونشأ بين التيارين المتناقضين -أعني التيار الإلحادي الصريح والتيار الكنسي المحافظ- تيار ثالث يدعي التوفيق بين التيارين وهو أقرب إلى الإلحاد، إلّا أنه يريد الإبقاء على شيء من دين ولكن غير الدين المحرف الذي كانت الهجمات قد توالت عليه منذ القرن السابع عشر الميلادي فأنهكته (١)، ولما جاء القرن
(١) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة أحمد الشيباني ٢/ ٥٤.