[الوجه الرابع من أوجه انحرافاتهم في الغيبيات: الإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالهم]
كما سبق في بداية هذا الفصل أن الإيمان بما وراء الحس أمر فطري في الإنسان، الذي يتكون من طين وروح، فالطين هو الجسد المادي وطاقاته الحسية المتصلة بالحواس والأعصاب واللحم والدم وغيرها من أجهزة الجسم.
والروح قوام حياة الجسد، وهي منبثة فيه بكيفية لا يعلمها إلَّا اللَّه، انبثاث الماء في الشجر الأخضر، أو الزيت في ثمر الزيتون، وفيها الطاقة المعنوية التي بها يكون التفكير التصوري التجريدي الذي يدرك الكليات والمعنويات والتجريديات، ويدرك القيم العليا كالعدل والحق والخير، والجمال، ويحلم ويتخيل وغير ذلك من أعمال النفس وطاقات الروح.
والروح والجسد التي تنبني عليها هذه المناشط هي -رغم هذا التقسيم- تشكل كيانًا موحدًا، وطاقة متكاملة، هذا الكيان هو "الإنسان".
وقد عبثت الفلسفات المادية الحديثة بهذه المفاهيم غاية العبث، خاصة بعد ظهور خرافة داروين المسماة "النشوء والارتقاء"، فقد نحت هذه الخرافة بالإنسان منحًى ماديًا صرفًا، إذ جعلته مجرد مادة، مجرد جسد يأكل ويشرب ويسكن ويتناسل، أي أنه يولد ويموت جسدًا خالصًا، أو حيوانًا خالصًا، وحتى العقل الذي هو ميزة الإنسان الظاهرة الجلية أعادتها نظرية داروين إلى الطبيعية وإلى الاصطفاء الطبيعي!!.
وإذا كانت نظرية داروين هي الأساس الذي بني عليه الماديون الملاحدة أبحاثهم وفلسفاتهم الإلحادية وما تفرع عنها من علوم اجتماعية ونفسية وأدبية وسياسية، فإنه لابد من النظر في أصل هذه النظرية من جهة أنها تنفي الغيب ولا تؤمن إلّا بالمحسوس، واتباع هذه النظرية والمتأثرون بها هم كذلك لا يؤمنون بالغيب إذا جاء على لسان رسول أو في وحي معصوم.