ولكن إذا جاء الغيب عن داروين أو غيره من فلاسفة المادية فإنهم يسلمون به، ويؤمنون به.
بل إنهم في معرض دفاعهم وجدالهم عن فرضية النشوء والارتقاء لا يترددون في اختراع عالم غيبي خاص بهم، يحيلون إليه ثغرات وسلبيات هذه الفرضية.
نأخذ النظرية في أصلها، فقد قامت على فرضيتين مسلمتين عند الداروينيين:
الأولى: أن العضويات الصغيرة في كل جيل من الأجيال تنزع دائمًا إلى أن تختلف اختلافات طفيفة عن آبائها في جميع الاتجاهات الممكنة.
الثانية: أن التغيرات المفيدة تنتقل إلى الأجيال التالية وتتراكم حتى ينتج عنها تغييرات جسمية عضوية (١).
هاتان المسلمتان التي تنبني عليها نظرية التطور هي في حقيقتها "غيبية" فالفرضية الأولى مجرد تخمين غيبي خاطئ لا يدل عليه أي دليل حسي أو عقلي، والفرضية الثانية كذلك، إذ لا دليل من المشاهد أو المحسوس أو المعقول على أن التغييرات تتوارث وتتراكم عبر الأجيال.
ولو افترضنا أنهم قالوا رأينا آثار التغيرات والتطورات في المتحجرات، كان هذا دليلًا على غيبيتهم من وجه آخر، فإنهم استدلوا بالأثر على المؤثر، وهذا استدلال بالحاضر على الغائب وبالمشاهد على غير الشاهد، وهذه غيبية محضة.
ثم إن هذه الفوضية لا تبرهن على صحة نظرية التطور، وإنّما تفترض منذ البداية أن نظرية التطور صحيحة، ثم جاءت الفرضية لشرح هذه النظرية، وهذه "مصادرة على المطلوب" بل التسليم بأن المخلوقات التي نراها الآن
(١) انظر: التطور عملياته ونتائجه لـ "إدوادر دودسن": ص ١٣٦، ٥٣٩، وكتاب "اللَّه يتجلى في عصر العلم": ص ٧٢.