للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذكرُه-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (١).

لقد ابتدأ هؤلاء الجاهلون ضلالهم من ضمن ما ابتدأوا به حين اثاقلوا إلى الأرض بأعراضها الزهيدة واهتماماتها الصغيرة، فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراء هذا المتاع الزائل، ولا يعرفون شيئًا غير هذه الحياة الحسية، ولا يعترفون بقيم غير تلك القيم التي تفرضها شهوات الدنيا وأهلها، ومن كان هذا حاله فلا يمكن أن يسمو تصوره أو ترتقي اهتماماته أو ترتفع غاياته عن هذه السفوح الهابطة، ولا يُمكن أن يصل ببصيرته إلى تلك الآفاق الإيمانية التي يعيش المؤمن بها ومعها في هذه الحياة العاجلة.

ومع كل ذلك فإننا نجد هؤلاء الصغار، المهازيل في أفكارهم وعقائدهم وتصوراتهم وطموحاتهم، نجدهم يسخرون من الذين آمنوا باللَّه واليوم الآخر، ينظرون بازدراء واحتقار إلى من هم أجل منهم وأعظم وأشرف وأكرم، ينظر الغارقون في وحول المادية والمستعبدون للأرض والحياة الدنيوية، إلى الذين آمنوا فيسخرون منهم، ومن إيمانهم وعقائدهم وتصوراتهم وأعمالهم؛ لأن الميزان الذي يزن به الكافرون الأعمال والقيم والعقائد هو ميزان الحس والمادة، ميزان الطين والأرض والشهوة، ميزان الجاهلية والضلالة، فلا غرو أن يكون حكمهم مترعًا بمقتضيات هذه الأعراض والأوصاف والأحوال، ألم يكن أسلافهم على خطتهم الساخرة حين مروا على نوح عليه الصلاة والسلام وهو يصنع الفلك؟ لقد كانت موازينهم الدنيوية ومعاييرهم الجاهلية تؤزهم إلى السخرية من هذا النبي الذي توعدهم بالطوفان، ولكنهم بسبب ماديتهم وحيوانيتهم وجاهليتهم لا يرون في الفلك المصنوع على اليابسة إلّا محل تندر وسخرية وضحك واستهزاء، ولكن نوح عليه الصلاة والسلام قال لهم بلسان الموقن المستبصر العاقل العالم {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨)} (٢).


(١) الآية ٢١٢ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٣٨ من سورة هود.

<<  <  ج: ص:  >  >>