وغني عن الذكر أن نصارى العرب كانوا أشد الحداثيين ولوعًا بالشعوبية، وانتماءًا لها، ولن أذكر في هذا المقام سوى شهادة ناقد حداثي، نظر إلى هذه الظاهرة بنظرة تحليلية تاريخية تؤكد ارتباط النصارى الحداثيين بالنموذج الغربي ثقافة وحضارة وانتماءًا.
يقول محمد جمال باروت: (إن حركة مجلة شعر إذ ترى في المعاصرة الغربية نموذجها الثقافي الشعري، بصفة متوسطية خطاب الهوية، وبصفة أن سورية ليست أمة شرقية وليس لها نفسية شرقية بل هي أمة متوسطية ولها نفسية التمدن الحديث الذي وضعت قواعده الأساسية في سورية، فإن متوسطية خطاب الهوية في سورية، لتبرير اندماجه الحضاري بالغرب لم تكن وليدة أنطون سعادة. . . بل إنه يُمكن تتبع جذورها في الفكر العربي في عصر النهضة، لدى المثقفين البرجوازيين المسيحيين، الذين حلموا بسورية الجغرافية الطبيعية المستقلة من جبال طوروس إلى صحراء سيناء، في إطار مجتمع علماني يقوم على الاقتصاد الحر والنظام البرلماني، وتدق فيه أجراس الكنائس بحرية في الستجق اللباني، وتحميه وتنميه أوروبا الليبرالية إلّا أن الارتباط الحضاري بالغرب إذ غذاه كون الحضارة حضارة مسيحية، والشعور بالاقتلاع داخل المجتمع العثماني الإسلامي، وارتباط العروبة بالإسلام، فإنه كان يستجيب لمتطلبات نمو البورجوازية المسيحية الناشئة التي قادت عملية "التحديث" والتي رأى مثقفوها في الغرب الليبرالي العلماني نموذجهم الحضاري. . . إن فكرة الوطن السوري في أواسط القرن التاسع عشر لدى المثقفين البورجوازيين المسيحيين يُمكن تتجعها لدى بطرس البستاني (١) الذي كان يقول: إن
(١) هو: بطرس بن بولس البستاني، من نصارى لبنان أديب ومصنف، واشتغل بالكتابة في الصحافة يعد عند القوميين والحداثيين من أكبر رواد الفكر الأدبي في لبنان وهو صاحب دائرة المعارف العربية، أجاد عدة لغات، وعمل ترجمانًا للقنصلية الأمريكية في لبنان واستعان به المراسلون الأمريكيون على إدارة الأعمال في مطابعهم وعلى ترجمة التوراة من العبرية إلى العربية، وإنشاء عدة صحف مع أبنائه وآخرين من أل البستاني، يلقبونه بالمعلم، توفي في بيروت سنة ١٣٠٠ هـ/ ١٨٨٣ م. انظر: الأعلام ٢/ ٥٨، والصراع بين القديم والجديد ٢/ ١٢٣٧.