للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفة حجه عليه الصلاة والسلام]

إذا كان لا بد من متابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا بد أن نعرف كيف حج الرسول عليه الصلاة والسلام.

فلنذكر ذلك على سبيل الاختصار حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة ولم يحج قبلها -بعد الهجرة لم يحج عليه الصلاة والسلام إلا هذه الحجة- لأنها -أي: مكة - كانت إلى السنة الثامنة تحت ولاية المشركين، وفي السنة التاسعة بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا بكر رضي الله عنه ليكون أمير الحجيج في السنة التاسعة، وتأخر في المدينة؛ لأن الناس صاروا يفدون إلى المدينة يتعلمون أحكام الإسلام، فبقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة وحج في السنة العاشرة وأعلم الناس بذلك، وحج معه نحو أربعين ألفاً من المسلمين؛ فخرج من المدينة ونزل بـ ذي الحليفة وأحرم منها، وسار إلى مكة، ولما وصل مكة طاف بالبيت سبعة أشواط: يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة الباقية.

وكان مضطبعاً بردائه، والاضطباع: أن يجعل الإنسان وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، ولما أتم سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:١٢٥] فصلى خلف المقام ركعتين قرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١] بعد الفاتحة، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] بعد الفاتحة، وخفف هاتين الركعتين من أجل أن يخلي المكان لمن أراد أن يصلي فيه.

ثم رجع إلى الركن -أي: إلى الحجر الأسود- فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:١٥٨] أبدأ بما بدأ الله به -فبدأ بـ الصفا - فرقي عليه واستقبل القبلة ورفع يديه وجعل يذكر الله ويدعوه، وكان من ذكر الله الذي قاله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم دعا، ثم أعاد الذكر مرة ثانية ثم دعا، ثم أعاده مرة ثالثة.

ثم نزل يمشي حتى نزل بطن الوادي -أي: مجرى الشعيب- وكان نازلاً فلما نزل بطن الوادي أسرع إسراعاً بالغاً حتى أن إزاره لتدور به من شدة السعي، فلما ارتفع صار يمشي إلى المروة، أتم سبعة أشواط: من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر، فكان أول ابتداء سعيه من الصفا وآخره المروة.

ثم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، أما هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يتحلل؛ لأنه قد ساق الهدي، ومن ساق الهدي لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله، وأشكل على الصحابة: كيف نتحول من الحج إلى العمرة، قالوا: (يا رسول الله! قد سمينا الحج.

قال: افعلوا ما آمركم به) وقال: دخلت العمرة في الحج، يعني: أن انتقالكم من الحج إلى العمرة لا يعني إفساد الحج؛ لأن العمرة دخلت في الحج.

ثم انتهى من السعي وخرج عليه الصلاة والسلام ونزل في الأبطح ولم ينزل في مكة من أجل أن يخليها لمن احتاج إليها، ومعه كما قلت لكم أربعون ألفاً، نزل هناك إلى أن كان يوم الثامن من ذي الحجة، فلما كان يوم الثامن من ذي الحجة ارتحل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى منى، وأحرم المسلمون الذين حلوا من عمرتهم في ذلك اليوم، وبقي في منى صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة، ونزل في مكان يقال له: نمرة ليستريح فيه، حتى إذا زالت الشمس ارتحل عليه الصلاة والسلام متجهاً إلى عرفة، فنزل في بطن الوادي -أي: وادي عرنة - وخطب الناس خطبة بليغة عظيمة، ثم أذن بلال فصلى الظهر والعصر جمع تقديم.

ثم سار إلى الموقف الذي اختار أن يقف فيه في عرفة عند الصخرات شرقي عرفة، وقف راكباً على بعيره عليه الصلاة والسلام يدعو الله تبارك وتعالى إلى أن غابت الشمس، ولما غابت الشمس دفع من عرفة متجهاً إلى مزدلفة حتى وصل مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فوقف عنده مستقبل القبلة يدعو الله تبارك وتعالى حتى أسفر جداً.

ثم واصل السير إلى منى وسلك الطريق الوسطى؛ لأن منى في ذلك الوقت فيها ثلاث طرق، فسلك الطريق الوسطى؛ لأنه أيسر في وصوله إلى جمرة العقبة، وبدأ بجمرة العقبة حين وصل إلى منى فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، وقال لأصحابه -وقوله لأصحابه قول لأمته- قال: (بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلوَّ في الدين) .

ثم بعد الرمي انصرف إلى المنحر وكان قد أهدى مائة بعير نحر منها ثلاثاً وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب الباقي فنحرها، ثم أمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كل بدنة بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقاً لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة:٥٨] ثم حلق وحل ونزل إلى مكة وطاف طواف الإفاضة ومن معه قارنين طافوا معه طواف الإفاضة، ولم يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا قد سعوا بعد طواف القدوم، أما المتمتعون الذين حلوا من العمرة فطافوا بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة.

ثم رجع إلى منى وأقام فيها ثلاثة أيام بعد العيد، رمى في اليوم الأول الجمرة الأولى، ثم الوسطى ثم العقبة، يدعو بين الجمرتين الأولى والثانية، والثانية والثالثة، أما الثالثة فإنه لم يقف بعدها للدعاء.

وفي اليوم الثالث عشر نزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منى بعد أن رمى الجمرات الثلاث وقبل أن يصلي الظهر، فنزل بمكان يقال له المحصَّن وفي آخر الليل أمر بالرحيل، فارتحل صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأتى المسجد الحرام فطاف طواف الوداع، وصلى الفجر، ثم رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه.

هذه هي الخلاصة، وقد سبق شيء كثير من أحكام الحج في اللقاء السابق.