تفسير قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً))
قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}[الفرقان:٦٤] يبيتون سجداً لله وقياماً، وتأمل لماذا قدم (لربهم) على قوله: (سجداً وقياماً) ؟! إشارة لإخلاصهم أنهم لا يقومون رياءً ولا سمعة، وإنما يقومون لله وحده، وهل هم يسجدون ويقومون فقط، أم يركعون أيضاً؟ يركعون ويجلسون، الصلاة فيها ركوع وقيام وقعود وسجود، فلماذا نص على القيام والسجود؟ نص عليهما لأن القيام أشرف بذكره، والسجود أشرف بهيئته، القيام أشرف بذكره؛ لأن الإنسان القائم يقرأ كلام الله عز وجل، أفضل قول هو قول الله عز وجل، فلشرف ما يقرأ به في قيامه نص على القيام، والسجود أشرف في هيئته؛ لأن الساجد أقرب ما يكون لربه تبارك وتعالى، فنص على القيام لشرفه لما يقرأ فيه، وعلى السجود لشرفه بهيئته.
وقل لي يا أخي: ما الذي تضعه عند السجود؟ تضع الجبهة والأنف، الوجه، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان ينزل حتى يكون في موطئ الأقدام ذلاً لله عز وجل، ولو وضع السيف على رقبة المؤمن ليسجد لفلان أو فلان ما سجد، لكنه إذا سمع المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ أجاب بسرعة.
إذاً هؤلاء من أوصافهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، وهل يطيلون القيام؟ هل يطيلون السجود؟ ما دام بياتهم على هذا الوصف فمعناه أنهم يطيلون القيام والسجود، وهذا إمامهم محمد صلوات الله وسلامه عليه يطيل القيام حتى إن قدميه لتتفطر من طول القيام (صلى معه ذات ليلة عبد الله بن مسعود وهو شاب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وأطال القيام، قال عبد الله بن مسعود: حتى هممت بأمر سوء -وهو شاب أصغر من الرسول عليه الصلاة والسلام- قالوا: ماذا هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أردت أن أقعد وأدعه) .
الله أكبر! وصلى معه حذيفة بن اليمان ذات ليلة، فبدأ بالبقرة بعد الفاتحة، يقول حذيفة:(فقلت: يسجد عند المائة، -أي: إذا أتم مائة آية يركع- ولكنه مضى حتى أتم البقرة، فقلت: يركع حينئذ، ثم مضى، فقرأ النساء ومضى وقرأ آل عمران) وهذا قبل الترتيب الأخير، لأن سورة النساء كانت قبل آل عمران، وفي الترتيب الأخير صارت آل عمران قبل النساء، وقرأ الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة أجزاء وربع، قال حذيفة:(وكان لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية وعيد إلا تعوذ) إذا كنا نقرأ خمسة أجزاء -مثلاً- في ساعة ونصف، ففي كم قرأها الرسول مع الترتيل ومع السؤال عند ورود الرحمة، والتعوذ عند ذكر العذاب، والتسبيح عند ذكر التسبيح؟ ستكون ساعات طويلة، وفي السجود -أيضاً- يطيل السجود عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يستحسر المرء إذا سمع مثل هذا، ويقول: ما لي ولهذا! لا أستطيع، ثم يقول لنفسه: أنام إلى أذان الفجر، فنقول: يا أخي! الخير كل الخير فيما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام:(اكلفوا من العمل ما تطيقون) أي: لا تكلفوا أنفسكم، وإنما الذي تطيقون، وقال صلى الله عليه وسلم:(أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) أي: الذي يديم عليه الإنسان وإن قل، فإذا حصل لك في آخر الليل قبل الفجر بنصف ساعة، تقوم وتتوضأ وتقرأ ما ينبغي أن يقرأ عند الاستيقاظ، وتصلي ولو ثلاث ركعات (الوتر) وتداوم على هذا، فهو خير والحمد لله.
لكن ابدأ صلاة الليل بعد النوم بركعتين خفيفتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويأمر به؛ أن تبدأ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، والحكمة من هذا: أن الإنسان إذا نام فإن الشيطان يعقد على ناصيته ثلاث عقد، ثم إذا قام من نومه وذكر الله انحلت عقدة، ثم إذا توضأ انحلت العقدة الثانية، ثم إذا صلى انحلت العقدة الثالثة، فكان ينبغي أن يجعل الصلاة أول ما يصلي بعد النوم ركعتين خفيفتين، وهذا سهل، نصف ساعة قبل صلاة الفجر تداوم عليها يكون هذا العمل عند الله عز وجل أحب ما يكون، فإن أحب ما يكون أن تداوم على العمل الصالح.