تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا.)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:٦٧] هم أيضاً مع كونهم يبيتون لله سجداً وقياماً، والذين يقيمون التهجد سيقيمون الفرائض من باب أولى، هم أيضاً منفقون، لكن إنفاقاً معتدلاً {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:٦٧] الإسراف: الزيادة، والإقتار: النقص، أي: لا يسرفون بزيادة ولا يقترون بتقصير، فهنا طرفان في الإنفاق: الأول: إسراف.
والثاني: إقتار.
وبينهما يقول: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:٦٧] أي: لا يميلون للإسراف ولا إلى التقتير، بل ينفقون بين هذا وهذا حسب ما تقوم به حاجاتهم، هل لأنهم فقراء أم لأنهم معتدلون؟ الثاني لا شك، حتى لو كانوا أغنى ما يكون فلا يمكن أن يسرفوا.
وإذا نظرنا إلى حال الناس اليوم وجدنا أنهم بين طرفين: إما مسرف يأتي بالطعام كثيراً، وباللباس كثيراً، وبالفرش كثيراً، وبالسيارات كثيراً، بكل ما ينفق يسرف، وإما مقتر لا يقوم بالواجب لأهله بل يقتر عليهم، وهناك قسم ثالث لكنه قليل يكون إنفاقه بين هذا وهذا.
والإسراف له أمثلة كثيرة، منها: رجل شاب في مقتبل العمر يريد أن يشتري سيارة، فعرضت عليه سيارة جديدة بأربعين ألف ريال، ممتازة توصله إلى مكة والمدينة والرياض وغيرها، وعرضت عليه سيارة أخرى بثمانين ألف ريال، وهو رجل قليل ذاتِ اليد، يمكن ألا يحصل على هذه السيارة إلا بقرض أو بتقسيط زائد على قيمتها الحاضرة، فتجد بعض الشباب يختار التي بثمانين ألفاً، وهو رجل قليل ذات اليد، فيبقى الدين عليه، وإذا حلَّ الدين ولم يوفِ فإن الدائن لا يرحمه، ويزيد عليه، وإلا فالسجن، وهذا المسكين لا يريد السجن بلا شك، يذهب يستدين من شخص آخر ليقضي الأول، وإذا حلَّ دين الثاني وليس عنده شيء طلب دائناً ثالثاً، وهكذا يكون بين أيدي الأغنياء كالكرة بين أيدي اللاعبين، هذا يضربه مرة وهذا يضربه مرة لماذا يا أخي؟ اشترِ على قدرك بأربعين ألف واقض حاجتك، وإياك والدين فهو هم وغم! ومن ابتلي به فإنه لا يشبع، وأضرب لكم مثلاً في كراهة الرسول عليه الصلاة والسلام للدين: أتت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! وهبت نفسي لك -تريد أن يكون زوجاً لها، والتزوج بالهبة خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:٥٠]- فلم يُردها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة زوجنيها، قال له: المهر، قال: المهر إزاري، ليس عليه رداء ما عليه إلا إزار، قال: إزاري، قال: إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن بقي معك بقت بلا صداق، ابحث عن مهر، فذهب الرجل يبحث فما وجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد) خاتم للإصبع من حديد فلم يجد، هل قال الرسول عليه الصلاة والسلام له: استقرض من إخوانك المسلمين؟ لا.
مع أن الزواج من ضروريات الحياة، ولم يفتح له باب الاستقراض، وإنما قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
معي كذا وكذا، قال: زوجتكها بما معك من القرآن) أي: علمها الذي عندك ويكفي.
فالمهم أن تهاون الشباب الآن وغير الشباب بالدين خطأ عظيم، اقتصد على قدر الحاجة، لا تكن من المسرفين ولا من المقترين، ويقول العوام في المثل السائر: (مد رجلك على قدر لحافك) .
هذا صحيح، الإنسان مثلاً: إذا كان طويلاً واللحاف قصير ومد رجليه فستخرج من اللحاف ويكون عرضة للبعوض وعرضة للبرد، لكن إذا مد رجليه على قدر اللحاف سلم.
فالحاصل: أن من صفات عباد الرحمن أنهم ينفقون ولكنهم {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:٦٧] .
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من عباد الرحمن، وسنتكلم إن شاء الله على بقية الآيات في اللقاءات المقبلة.
أمدنا الله وإياكم بعونه، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه على كل شيء قدير.
وأبشر إخواني الذين جاءوا من أماكن من غير هذا الحي، أبشرهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) اللهم اجعلنا من هؤلاء إنك على كل شيء قدير.