للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التطفيف بين الرعاة والرعية]

كذلك -أيضاً- بين الرعية والرعاة، وهذا أوسع وأعظم، أعني: بين الملوك والسلاطين وبين الرعية.

كثير من الناس يريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون -ولا شك أننا نريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون- لكننا لا نعطيهم في المعاملة أكمل ما يكون.

بمعنى أن بعض الرعية يقول: يجب أن يكون الراعي على أكمل ما يكون، ومع ذلك تجد الرعية على أنقص ما يكون أهذا عدل؟ لا والله ما هو بعدل، إذا كنت تريد أن تعطى الحق كاملاً فأعط الحق الذي عليك كاملاً وإلا فلا تطلب.

ومن حكمة الله عز وجل أن المولَّى على حسب المولَّى عليه وهذه من الحكمة أن يكون المولى -ولي الأمر- على حسب من ولي عليه، إن صلح هذا صلح هذا وإن فسد هذا فسد هذا، وفي الأثر: [كما تكونوا يول عليكم] يعني: أن الله يولي على الناس على حسب حالهم، وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه صحيح المعنى، اقرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:١٢٩] أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟ {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:١٢٩] فإذا ظلمت الرعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك بالعكس: إذا صلح الراعي صلحت الرعية.

ذكروا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رجلاً من الخوارج الذين قاتلوا علياً -وتعلمون الخوارج أنهم كانوا أولاً يقاتلون مع علي ضد معاوية رضي الله عنهما جميعاً- ثم إنه لما رضي علي رضي الله عنه بالتحكيم لإطفاء الفتنة انقلبوا على علي، وكفروا علياً وكفروا معاوية، واستحلوا دماء المسلمين، ولذلك ففتنة الخوارج من أعظم الفتن وأقبحها؛ لأنهم كما قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: يقتلون المسلمين ويسالمون الكفار وإذا تأملت وجدت هذا هو الواقع في الخوارج، مع أن الخوارج لو نظرنا إلى عبادتهم القاصرة -يعني: المقصورة عليهم- لرأيناهم من أكمل الناس، يقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم: (إنكم -ويخاطب الصحابة- تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وقراءتكم عند قراءتهم) يعني: هم أكمل منكم في اللفظ؛ لكن يقول عليه الصلاة والسلام: (إنهم يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم) أعاذنا الله وإياكم من ذلك، اللهم أدخل الإيمان في قلوبنا وثبته فينا يا رب العالمين.

يقول: (إن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، وإنهم ليمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية) السهم إذا طرب الرمية مرق منها بسرعة وخرج، هم يمرقون من الإسلام كذلك.

أقول: إن رجلاً من الخوارج جاء إلى علي بن أبي طالب وقال: يا علي انظر ما قال: يا أمير المؤمنين لأنه لا يعتقد أنه أمير المؤمنين قال: يا علي ما بال الناس اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ سؤال محرج! لكنه وجه إلى أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، منذ قتل عثمان حصلت فتن عظيمة بين الصحابة أنفسهم، لكن هذه الفتن التي حصلت زاد الناس فيها ونقصوا، وكذبوا -أيضاً- ووضعوا، فالكثير من التاريخ في هذه المسألة بالذات -أي: في ما وقع بين الصحابة- في صفين والجمل وغيرها كثير منها كذب، وكثير منها ضعيف، والصحيح فيها كما قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: الصحيح منها هم فيه معذورون متأولون، من أخطأ منهم فله أجر، ومن أصاب فله أجران.

ولا يحل لنا أن نميل مع واحد منهم أبداً، وإن كنا نعتقد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الخليفة الرابع، وأن خلافته لم تنته إلا بموته، وأنه أقرب إلى الحق من غيره، هذا لا شك عندنا فيه، لكن كوننا نبغض هذا ونحب هذا غلط، ولذلك قال العلماء: يجب علينا -وهو مذهب أهل السنة والجماعة - أن نمسك عما جرى بين الصحابة.

وعبر بعضهم بقوله:

ونسكت عن حرب الصحابة فالذي جرى بينهم كان اجتهاداً مجرداً

أي: نسكت، ولا نتكلم فيه، ولا ننشره بين الناس؛ لأنك إذا نشرت هذا بين الناس فلا بد أن ينقدح في قلب أحدهم الميل إلى هذا أو إلى هذا فيهلك، فالأولى أن ندع الحديث عما جرى بين الصحابة، ولهذا لما سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي اعتبره بعض العلماء الخليفة الخامس لما سئل عما وقع بين علي ومعاوية قال كلمةً هي جديرة أن تكتب بماء الذهب، قال للذي سأله: [هذه دماء طهر الله أسيافنا منها، فيجب أن نطهر ألسنتنا منها] يعني: تلك أمة قد خلت، ولا ينبغي لنا أن نقرأ ما جرى بينهم؛ لأن هذا لا بد أن يوقع في قلب الإنسان الميل مع أحدهم، وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة هو الحق، وهو الخير؛ أن نمسك عما جرى بينهم كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وغيره من العلماء، وأن نقول: هؤلاء أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون.

الذي نريد من الحكومة أن تصنع كل ما يريد، وأن تكون حكومات الخلفاء الراشدين، ولكننا إذا نظرنا أنفسنا وإذا نحن مفرطون، مفرطون أولاً في حق الله عز وجل، فعندنا كذب، خيانة، تقصير في الواجب، أليس كذلك؟ نشهد على أنفسنا بهذا، عندنا هذا كله، عندنا -أيضاً- تقصير في حق الدولة، فما أكثر الذين يخدعون الدولة ويلبسون الأمور عليها، ويكتمون ما تطلب الدولة إظهاره! وهذا شيء يعرفه كل واحد منكم ولا يخفى عليكم.

هل هذا عدل أن نريد من الحكومة أن تبذل كل ما في وسعها من الاستقامة حتى تكون كالخلفاء ونحن على العكس؟ لا، هذا داخل في قوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:٢-٣] ونحن نرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا ودولتنا الاستقامة على الحق، وأن يصلح أمورهم، ونحن نعلم أنه لا يوجد اليوم على ظهر الأرض أحد من الولاة مثل ولاة أمورنا على ما فيهم من التقصير، وأنه لا يوجد شعب يمثل الإسلام والتوحيد حقيقةً مثلما يمثله الشعب السعودي على ما فيه من التقصير.

نحن لا نقول هذا تحيزاً أو تعصباً، لكننا نسمع ونقرأ عن البلاد الأخرى، فإذاً يجب العدل، اطلب وأعطا، أما أن تطلب بلا عطاء فإن هذا لا شك من الحيف والجور.