صفة حجه عليه الصلاة والسلام إجمالاً
فرض الحج وحج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد هجرته مرةً واحدة في الاتفاق، وجعل الله تعالى في هذه الحجة على كثرة ما فيها من الأفعال وكثرت ما فيها من الأقوال بركة عظيمة، تلقاها سلفنا الصالح (الصحابة رضي الله عنهم) ونقلوها إلينا -والحمد لله- محفوظة متقنة محررة من قبل جهابذة العلماء في الحديث، حتى كأنما نشاهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لم يحج إلا مرة واحدة، ولكن بركة الله لا نهاية ولا حصر لها.
في السنة التاسعة أعلن أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حاج العام المقبل، فاجتمع المسلمون من جميع الجهات من الجزيرة العربية من أجل أن يشاهدوا حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقتدوا به وينقلوه إلى الأمة، فاجتمع خلق كثير كانوا من بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن خلفه وعن يمينه وشماله مد البصر، أمم عظيمة لتقتدي برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأتم به وتنقل حجه إلى أمته من بعدهم، وهكذا حصل.
خرج صلى الله عليه وسلم في الخامس والعشرين من ذي القعدة يوم السبت، ونزل في ذي الحليفة وأحرم منها وسار إلى مكة، ولما وصل البيت طاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج والعمرة؛ لأنه كان قارناً وبقي على إحرامه، فلم يتحلل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه كان قد ساق الهدي، طاف بالبيت وبقي على إحرامه وأمر أصحابه أن يحلوا، ثم خرج ظاهر مكة ونزل الأبطح وكان قدومه يوم الأحد الرابع من شهر ذي الحجة وبقي هناك يصلي ركعتين ولم ينزل إلى المسجد الحرام لا لطواف ولا لصلاة.
وفي اليوم الثامن توجه صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه إلى منى، فنزل هناك وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع، ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة ونزل بـ نمرة وهي: قرية تقع جنوب غرب عرفة من أجل أن يستريح ويريح رواحلهم.
فلما زالت الشمس أمر أن ترحل ناقته، فرحلت وركبها ونزل في بطن الوادي وادي عرنة في المكان الذي بني فيه المسجد الآن، نزل هناك وأمر المؤذن فأذن للظهر، فصلى الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، ثم خطب الناس خطبةً عظيمةً بليغةً تناولها أهل العلم بالشرح واستنباط الفوائد، ومن أحسن ما رأيت رسالة للشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله في شرح هذه الخطبة وهي مطبوعة ومنشورة، ويقال: إنه ما من أحد في عرفة إلا سمع الخطبة، أي: أن الله عز وجل سهل للمسلمين أن يسمعوا هذه الخطبة في أي مكان من عرفة.
ثم ارتحل ناقته إلى المكان الذي اختار أن يقف فيه، وهو عند جبل عرفات الذي يسمى: جبل الرحمة، وهي تسمية حادثة وإلا فاسمه إلال على وزن هلال أو جبل عرفة وهو معروف الآن، نزل هناك، لماذا نزل هناك؟ أظن والله أعلم أنه اختار النزول هناك ليكون خلف أصحابه؛ لأن من عادته في السير أن يكون آخر قومه ليتفقد المتخلف صلوات الله وسلامه عليه، وقف على بعيره يدعو الله عز وجل رافعاً يديه اليمنى واليسرى حتى إن خطام ناقته لما سقط أخذه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى إلى أن غابت الشمس، ثم دفع متجهاً إلى مزدلفة، وفي أثناء الطريق احتاج صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبول فخرج إلى الشعب عن يسار الذاهب إلى مزدلفة، ونزل وبال وتوضأ، ولكنه توضأ وضوءاً خفيفاً ولم يسبغ، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أردف خلفه على ناقته أسامة بن زيد بن حارثة، فقال له أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك) .
ثم ركب حتى أتى مزدلفة بعد دخول وقت العشاء فتوضأ فأسبغ وأمر فنودي للصلاة، ثم صلى المغرب والعشاء ثم بات هناك، ولما طلع الفجر أمر بالأذان للفجر ثم صلى الفجر في غلس مبكراً على خلاف العادة، وبعد ذلك ركب حتى أتى المشعر الحرام مكان المسجد اليوم، ووقف على بعيره يدعو الله ويستغفر الله حتى أسفر جداً، وكان يقول في عرفة: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) وفي مزدلفة يقول: (وقفت هاهنا وجمع -يعني: مزدلفة - كلها موقف) كأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشير إلى أن يبقى كل أناس بمكانهم حتى لا يزدحموا على مكان مخصوص، والحكم واحد والأجر واحد.
ولما أسفر جداً سار من مزدلفة إلى منى وكانت منى في ذلك الوقت لها ثلاث طرق: طريق على اليمين، وطريق على اليسار، وطريق في الوسط، فسلك الطريق الوسطى؛ لأنها تخرج رأساً على جمرة العقبة، وهو يريد أن يبدأ قبل كل شيء برمي الجمرة، حتى أتى الجمرة ووقف وأمر عبد الله بن عباس أن يلقط الحصى -حصى الجمرات- فلقط سبع حصيات فقط فوق الحمص ودون البندق، وجعل يقلبها بين يديه ويقول: (بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين) رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
ومن المعلوم أنه لن يصل إلى الجمرة إلا بعد طلوع الشمس؛ لأنه وقف في مزدلفة حتى أسفر جداً، ثم سار على بعيره، فرمى الجمرات ثم نحر هديه، أهدى مائة بعير عليه الصلاة والسلام (مائة بعير عن سبعمائة شاة) نحر بيده الكريمة ثلاثاً وستين بعيراً، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فينحر، ثم حلق رأسه وبدأ بالشق الأيمن وقسم الشعر على الناس.
فهو إلى الآن رمى ثم نحر ثم حلق وحل، تحلل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نزل إلى مكة فطاف بالبيت وشرب من ماء زمزم وصلى الظهر هناك، ثم خرج إلى منى، خرج إلى منى ووجد أناساً لم يصلوا، فصلى مرةً أخرى؛ لأنه ثبت أنه صلى في منى الظهر وصلى في مكة، والجمع بينهما أن نقول: صلى في مكة ولما خرج وجد بعض أصحابه لم يصلوا فصلى بهم صلى الله عليه وسلم.
وبات في منى ليلة الحادية عشرة، ولما زالت الشمس من اليوم الحادي عشر ذهب ليرمي الجمرات قبل أن يصلي الظهر بعد الزوال وقبل الصلاة، رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، ثم تقدم واستقبل القبلة ورفع يديه وجعل يدعو دعاءً طويلاً، ثم الوسطى بسبع حصيات، ثم تقدم واستقبل القبلة ورفع يديه وجعل يدعو دعاءً طويلاً، ثم جمرة العقبة ولم يقف، ثم عاد إلى رحله، وبات في منى ليلة الثاني عشر، وفي اليوم الثاني عشر فعل كما فعل في اليوم الحادي عشر، ثم بات في منى ليلة الثالث عشر، ورمى الجمرات في اليوم الثالث عشر كما رماها في اليوم الثاني عشر، ثم نزل إلى مكة وصلى الظهر في مكة -ظهر يوم الثالث عشر- وبات في مكان يقال له: المحصَّب لكثرة حصبائه، وفي آخر الليل أمر بالرحيل فارتحل الناس، وأتى البيت فطاف فيه طواف الوداع، ثم صلى صلاة الفجر، ثم غادر إلى مهاجره طيبة المدينة، فبقي في مكة عشرة أيام (من الرابع إلى الرابع عشر) ولهذا سئل أنس بن مالك: كم أقمتم في مكة؟ قال: أقمنا فيها عشراً.
هذه صفة حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتينا بها على وجه الإجمال ليكون ذلك أسهل وأقرب للفهم، ولكن لنا فيها وقفات.