تفسير قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا.)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥] هذا جزاؤهم، والغرفة هي الجنة، وسميت بذلك لأنها غرف فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلني وإياكم من ساكنيها {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥] أي: بسبب صبرهم.
قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أقسام: ١/ صبر على طاعة الله.
٢/ صبر عن معصية الله.
٣/ صبر على أقدار الله المؤلمة ولنضرب لكل واحدة مثالاً: الصبر على طاعة الله أن يقاوم الإنسان نفسه ويحملها على فعل الطاعة، فلو قام في آخر الليل في أيام الشتاء، ووجد الماء بارداً لكنه لا يضره، فإنه يحتاج إلى صبر، فليصبر، وإن تألم بالبرد، فإن إسباغ الوضوء على المكاره من الرباط.
هذا صبر على طاعة الله.
الصبر عن معصية الله أن تهون عليه نفسه النظر إلى النساء -مثلاً- ويحاول أن يمنعها.
هذا صبر عن محارم الله.
الصبر على أقدار الله لا يكاد يسلم أحد من بلاء من مرض من فقر من فقد أقارب من فقد أصحاب، والمصائب كثيرة، فليصبر على هذه الأقدار، ويتحمل، فإن الله تعالى مع الصابرين.
قال العلماء رحمهم الله: ومقام الناس بالنسبة لأقدار الله أربعة مقامات: الأول: الجزع.
الثاني: الصبر.
الثالث: الرضا.
الرابع: الشكر.
كل إنسان يصاب بمصيبة لا بد أن يكون على حال من هذه الأحوال.
الأول: الجزع وذلك أنه إذا أصيب بالمصيبة جعل يلطم خده، وينتف شعره، ويدعو بالويل والثبور، ويشق ثوبه وهذا عليه وزر، أو إذا مات عليه قريب جعل ينوح عليه نوح الحمام ولا يصبر، والنوح على الأموات من كبائر الذنوب، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، أي: التي تنوح والتي تستمع لها.
ومن الناس -والعياذ بالله- من يزيد على هذا فيصعد إلى الجبل عند المصيبة ويتردى منه؛ فيهلك نفسه، أو يشرب سماً، فيقتل نفسه، أو يقتل نفسه بحديدة، ولا يصبر، وهل هذا الذي يفعل هذا الفعل ينجو من المصيبة؟ لا والله، بل لا يزداد إلا حسرة؛ لأنه إذا مات وهو الذي قتل نفسه فإنه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم، نسأل الله العافية! وما فعله هذا إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
الثاني: الصبر وهو أن يتجرع مرارة المصيبة، يتعب نفسياً من المصيبة، لكنه قد حمى سمعه وبصره وجوارحه، ويتحمل، فإن زاد على ذلك الاحتساب، أي: احتساب الأجر من الله على الصبر فهذا نور على نور.
الثالث: الرضا ومعناه: أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة قال: هذه من عند الله، ورضي بها واستسلم، ولم يكن في قلبه ذلك الحزن البالغ الذي قد يحمله على مكروه، بل يقول: أنا عبد الله عز وجل يفعل بي ما شاء، إن أصابني بضراء صبرت فكان خيراً لي، وإن أصابني بسراء شكرت فكان خيراً لي.
الرابع: الشكر لكن كيف يشكر الإنسان على المصيبة؟ يشكر على المصيبة من وجهين: الوجه الأول: أنه إذا قاسها بما هو أعظم شكر الله.
الثاني: أنه إذا قاسها باعتبار أجرها شكر الله؛ لأن الأجر خيرٌ من المصيبة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠] .
نرجع إلى الآيات قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:٧٥] تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، وإدخال الأنس والسرور، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:٧٦] (خالدين فيها) أي: في الغرفة، والمراد غرفات الجنات (حسنت مستقراً ومقاماً) والفعل إذا بني على (فعُل) فمعناه التعجب، أي: ما أحسنها مستقراً ومقاماً! أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من ساكني هذه الغرف، وأن يتوفانا على الإيمان، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.