إخواني! في حج هذا العام (عام ١٤١٧هـ) حدث حريق هائل في يوم التروية، وكثير من الناس في منى، وكثير من الناس في مكة، وكثير من الناس في عرفة، وكثير من الناس الذين في منى قد أحرموا، وكثير منهم لم يحرم، وكانت الكارثة عظيمة لولا أن الله تعالى منَّ بتقليلها حتى انحصرت فيما انحصرت فيه، وقد قدرت الخيام التي التهمتها النار بسبعين ألف خيمة، والموتى بأكثر من ثلاثمائة ميت، والجرحى بنحو ألفين أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والضائعون -أيضاً- كثيرون، ولا شك أن هذه كارثة، ولكن بسبب الذنوب والمعاصي لقول الله تبارك وتعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى:٣٠] فيجب علينا أن نتخذ من ذلك عبرة وعظة.
ومن أكبر ما ينبغي أن نتعظ فيه ألا نتخذ الحج نزهة لا نريد منه إلا أن نطرب أنفسنا ويجلس بعضنا إلى بعض للمرح والضحك وإضاعة الوقت؛ لأن الحج عبادة حتى أن الله تعالى سماه نذراً وسماه فرضاً فقال تبارك تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ}[البقرة:١٩٧] وقال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}[الحج:٢٩] فهو عبادة جليلة، ليس طرفة ولا نزهة، فمن الناس من يتخذه نزهة ومن الناس من يتخذه موسماً للتسول، ومن الناس من يتخذه موسماً للسرقة والعدوان والعياذ بالله، فالناس يختلفون، فهذه المصائب لا شك أنها بذنوبنا، ولا شك -أيضاً- أنها قد كتبت علينا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ولهذا يجب علينا أن نتخذ من هذه المصيبة موعظةً تتعظ بها القلوب، وأن نتخذ منها رضاً بقضاء الله وقدره، وأن نقول: الحمد لله على كل حال.
والذين أصيبوا بها وماتوا إن كانوا محرمين فإنه يرجى أن يكونوا شهداء ويخرجون من قبورهم يقولون: لبيك اللهم لبيك؛ فيجتمع لهم الشهادة، والموت على الإحرام، والخروج من القبور يلبون، ومن لم يكن أحرم فإننا نرجو أن يكون من الشهداء -أيضاً- لأن الحريق شهيد كما جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولقد كان في هذه الحادثة عجائب منها: الريح الشديدة التي كانت تنقل اللهب من مكان إلى مكان فتنقل قطع الخيام من جهة إلى جهة، ثم إذا وقعت في جهة احترقت الجهة التي انتقلت إليها هذه القطعة، وأخبرني شخص أثق به عن إنسان شاهد بعينه أن حمامة مرت فأصابها اللهب، ففرت من اللهب وذيلها يلتهب فسقطت ميتة، أدركها الاحتراق فسقطت على خيمة فاشتعلت الخيمة سبحان الله! هذا مما يدل على أن الله عز وجل ابتلى العباد بهذا الحريق.
ثم الرياح الشديدة العاصفة في ذلك اليوم التي نراها تسوق النيران سوقاً حثيثاً مما يدل على أن الله تعالى أراد من عباده -وله حكمة- أن يتعظوا بمثل هذه الأمور، وحصل فيها من الحريق ما حصل، وحصل فيها أن من الناس من فقد أمه ومن فقد زوجته ومن فقد أبناءه، ومنهم من رئي محترقاً وهو ساجد -سبحان الله- ساجد لله عز وجل فإما أن يقوم يصلي الظهر أو العصر، وإما أن يكون لما أحس بأن النار أدركته قام يصلي وأحب أن يموت على صلاته.
فعلى كل حال نسأل الله تعالى لإخواننا الذين ماتوا أن يغفر لهم ويكتبهم من الشهداء، وأن يشفي إخواننا الذين ما زالوا على قيد الحياة، ويجعل ما أصابهم في تكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم، ونسأل الله تعالى أن يأجر كل من أصيب بهذه المصيبة لأن كل مؤمن مصاب بلا شك بهذه المصيبة، فنسأل الله تعالى أن يجبر كسر الجميع، وأن يعفو عنا ويغفر لنا إنه على كل شيء قدير.