[آيات الصيام في كتاب الله]
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنها لمناسبة كبيرة جليلة أن نلتقي في هذا اللقاء المبارك الذي سماه أخونا الشيخ حمود بن عبد العزيز الصايغ محاضرة، والمقصود هو الفائدة، وسمها ما شئت: محاضرة، لقاءً مفتوحاً، غير مفتوح، سمها كما تحب والمهم هو الفائدة، هذا اللقاء في وقته مناسب، وفي مكانه مناسب: أما وقته فإنه باستقبال شهر رمضان المبارك، الذي أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، ويُغفر له ما تقدم من ذنبه.
وأما مكانه ففي الجامع الكبير في مدينة عنيزة، الجامع القديم الذين هو أقدم الجوامع في هذا البلد فيما نعلم، ويقع هذا اللقاء ليلة الأحد الثالث والعشرين من شهر شعبان عام (١٤١٣هـ) .
إن موضوع هذا اللقاء هو الكلام عن الصيام والقيام، وفي اللقاء الذي سيكون إن شاء الله دورياً في رمضان سيكون الكلام عن الزكاة أيضاً.
وقد طلب مني الأخ الشيخ حمود بن عبد العزيز الصايغ أن أقدم بين يدي الكلام تفسيراً موجزاً لآيات الصيام، وكان هذا قد وقع في قلبي من قبل، فإني قد هممت أن أتكلم على آيات الصيام في كتاب الله عز وجل؛ لأن خير ما يُربط به المؤمنون هو كتاب الله عز وجل، ولهذا ينبغي لكل فقيه ولكل محاضر ولكل داعية أن يربط الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لفوائد متعددة، منها: ربط الناس بالأصول؛ لأن أصول شريعتنا تنحصر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقياس والإجماع فرع عنهما؛ ولأن الناس إذا ربطوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم شعروا بأنهم يؤدون العبادات ويقومون بالمعاملات، اتباعاً لإرشاد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكون الإنسان يعتقد وهو يعمل العمل أنه متبع لكتاب الله ولسنة الرسول خيراً من كونه يعمله وهو يعتقد أنه آخذ بالكتاب الفلاني أو الكتاب الفلاني.
المقلدون تقليداً محضاً الذين يعتمدون على كتب الفقهاء دون الرجوع إلى الأصول من الكتاب والسنة تجد الواحد منهم إذا عمل العمل يشعر بأنه مربوط بكلام العالم الذي قلده، لكن إذا حاولنا أن نربط الناس بكتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام كان ذلك خيراً وأفضل، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلن في خطبة الجمعة يقول: (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) .
والذي أرجو من إخواني طلبة العلم والدعاة إلى الخير والمرشدين أن يلاحظوا هذه المسألة، وأن يربطوا الناس بكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام حتى يعبد الناس ربهم وهم يشعرون بأنهم يفعلون ما يفعلون امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا نجد الصحابة والتابعين عندما يريد أحد منهم أن يتكلم يقول: لأن الله قال؛ لأن رسول الله قال، وهذا أمر مهم جداً.
وبناءً على ذلك أقول: إن الله تعالى في كتابه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] .
تأمل الخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٨٣] يخاطبنا الله عز وجل وينادينا باسم الإيمان أو بوصف الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٨٣] إذاً نحن مؤمنون فماذا تريد منا يا ربنا؟ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] كتب أي: فرض، وليس هذا الفرض تكليفاً لكم أنتم أيها الأمة وحدكم بل هو مكتوب على من قبلكم: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] .
وفي قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] فائدتان: الفائدة الأولى: تسلية هذه الأمة إذا أصابها ما يصيبها من الجوع والعطش بسبب الصيام، فإن الإنسان يتسلى بما يصيب غيره.
الفائدة الثانية: بيان أن الله استكمل لهذه الأمة الفضائل التي نالتها الأمم السابقة: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] ولهذا كانت شريعتنا -ولله الحمد نسأل الله أن يثبتنا عليها- متممة للشرائع السابقة حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف رسالته بأنها كقصر تام البناء إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون بهذا القصر يدورون عليه ويتعجبون منه، إلا أنهم يقولون: هذا الموضع -موضع اللبنة- يعتبر ثلمة في القصر، ونقصاً فيه، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فأنا اللبنة الذي تمم هذا القصر) ، ولهذا بعث عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق.
قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] لماذا؟ هل لأجل أن نجوع ونعطش؟ لا.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] أي: من أجل أن تتقوا الله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه) .
ومن هنا يجب أن نشعر ونحن نصوم فنمسك عما أحل الله من الأكل والشرب والنكاح، نشعر بأننا نفعل هذا تعبداً لله وامتثالاً لأمره وتنفيذاً لفرضه، وأننا نتوسل بذلك ونتوصل إلى التقوى إلى اجتناب المحرمات والقيام بالواجبات.
أكثر الناس يظنون أن الصيام مجرد حبس النفس عن الأكل والشرب والنكاح، فتجدهم يقضون أوقات النهار بالنوم أو العبث أو اللعب أو ما أشبه ذلك، وهذا خطأ، إذا صمت فليصم منك السمع والبصر واللسان والجوارح، اتق الله، تجنب محارم الله، قم بما أوجب الله عليك من الواجبات، صل مع الجماعة، أكثر من قراءة القرآن، أكثر من الصدقة، أكثر من الإحسان حتى تنال الحكمة التي من أجلها فرض الصوم.
ما هذا الصوم؟ هل هو أشهر؟ هل هو سنوات؟ هل هو أسابيع؟ استمع: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:١٨٤] لماذا قال: أياماً معدودات؟ لتقليلها وتهوينها على الإنسان، ليست شهوراً ولا سنين: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:١٨٤] .
قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] هذا تسهيل آخر، مع ذلك لا يجب على كل واحد أن يصوم، المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ومتى يصوم؟ عدة من أيام أخر، المسافر ولو في الطائرة، ولو في سيارة مكيفة، ولو في أيام الشتاء يفطر تيسيراً: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] .
ثم قال وهذا تسهيل ثالث: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:١٨٤] هذا تسهيل ثالث أن الإنسان مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر وفدى.
قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:١٨٤] أي: يستطيعون أن يصوموا، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} [البقرة:١٨٤] ودفع الفدية {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:١٨٤] الصيام خير من الفدية، لكن كله جائز إن شئت فصم وإن شئت فأفطر وافدِ، هذه ثلاثة تسهيلات: الأول: أياماً معدودات.
الثاني: سقوط الصيام عن المسافر والمريض إلى أيام أخر.
الثالث: التخيير، إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، ولكن إذا أفطرت فلا بد من الفدية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} [البقرة:١٨٤] وأدى الفدية: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:١٨٤] .
ولكن هل هذه التخييرات الثلاثة بقيت؟ وهل الأيام بقيت مبهمة أي: أياماً معدودات -لا ندري قد تكون في شعبان في رمضان في رجب في شوال في ربيع هل بقيت الأيام مبهمة؟ وهل بقي التخيير بين الصيام والفدية على ما هو عليه من التخيير؟ وهل بقي الترخيص للمريض والمسافر في الفطر؟ لننظر اقرأ الآية التي بعدها: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:١٨٥] هذه هي الأيام، إذاً الأيام المبهمة أولاً عينت في الآية الثانية بأنها شهر رمضان، ولماذا خص شهر رمضان؟ لماذا لم يكن الصوم في رجب؟ لماذا لم يكن في ذي القعدة؟ لماذا لم يكن في ذي الحجة؟ لماذا لم يكن في المحرم؟ هذه الأشهر الأربعة هي الحرم فلماذا لم يكن الصيام في الأشهر الحرم؟ لأن الأشهر الحرم جبين السنة، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:٣٦] لماذا لم يكن الصيام في أحد الأشهر الحرم؟ استمع: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:١٨٥] لماذا خص رمضان؟ {الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:١٨٥] فشهر حصلت فيه هذه البركة العظيمة، جدير بأن يكون محل الصوم، ولهذا كان ارتباط القرآن بالصوم.
كان النبي عليه الصلاة والسلام ينزل عليه جبريل في كل رمضان يدارسه القرآن، ولا ينزل عليه في غيره من الشهور، ينزل عليه بالوحي لا بأس، لكن لا ينزل للمدارسة إلا في شهر رمضان، يدارسه القرآن كل سنة مرة، إلا في السنة التي توفي فيها دارسه إياه مرتين.
إذاً هناك ار