للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

انههم على حسب ما تقتضيه المصلحة، والمصلحة تختلف، قد تقتضي المصلحة أن أنهرهم وأشدد عليهم، وقد تقتضي المصلحة أن ألين معهم وأسهل عليهم، حسب الحال، لأنك مثلاً لو رأيت إنساناً يقوم بمنكر لكنه معاند تعرف أنه يعلم المنكر ولكنه معاند، وإنسان آخر على منكر لكنه جاهل لا يدري، هل يكون نهيك الثاني كنهيك للأول؟

الجواب

يختلف، ودليل ذلك: أنك تنزل الناس منازلهم في النهي عن المنكر، ما ثبت في الصحيحين: أن أعرابياً دخل مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فتنحى ناحية فجعل يبول، فزجره الناس صاحوا به، وحق لهم أن يصيحوا به، فزجرهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه بوله، دعوه، فتركوه، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرين: الأمر الأول: قال: (صبوا عليه ماءً) على البول، فصبوا عليه الماء، عادت الأرض الآن طاهرةً كما كانت قبل البول زالت المفسدة الآن.

الأمر الثاني: أمر الأعرابي، قال: تعال، فقال له: (إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، فانشرح صدر الأعرابي بهذا القول اللين البين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له حكماً وعلة، يعني: ذكر له حكماً وتعليلاً، الحكم قال: (هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر) والتعليل قال: (لأنها مبنية للصلاة والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، الأعرابي انشرح وانبسط تماماً وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.

لأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه قابله باللين واللطف والتعليم، والصحابة رضي الله عنهم أخذتهم الغيرة فزجروه وصاحوا به، فالأعرابي قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.

وفي هذا دليل واضح على أننا ننزل الناس منازلهم، والجاهل ليس كالعالم، نأتيه بلطف.

مثال ذلك أيضاً أمر واقع: رأى إنسان رجلاً يمشي في السوق ومعه سيجارة فصاح به: تشرب الدخان، هذا حرام، والعياذ بالله، أنت فاسق، ماذا يكون مقابلة هذا الذي يشرب السيجارة لهذا الرجل؟ سوف يغضب عليه ويصيح به ويقول: أنت الفاسق، ولا يمتثل أمره، لكن لو جاءه إنسان بلطف وقال: يا أخي، يقول: يا أخي ما فيه مانع هو أخوك لأنه مؤمن، يا أخي هذا أمر لا يليق بك أنت رجل شريف، ثم هذا أمر قد حرمه الله عليك، هذا أمر يتلف مالك، هذا أمر يهلك صحتك، هذا أمر يسود أسنانك وشفتيك، هذا أمر تقدمه على خبز أهلك، هذا غير معقول، تب إلى الله وارجع إلى الله واترك، قال: أنا والله ما أقدر، كلامك زين وعلى عيني ورأسي، لكن لا أقدر، فاسمح لي أن أتدرج يوماً يشرب عشرة سيجارات واليوم الثاني ثمان واليوم الثالث خمس وهكذا، تسمح لي، ماذا يقول له؟ يقول: نعم أم يقول: لا؟ الأول الذي زجره يقول: لا أبداً لا أسمح لك ولا تكمل السيجارة التي في يدك، وهذا يقول له: ما فيه مانع لا بأس، أيهما أصوب؟ الثاني أصوب، لأن المسألة تحتاج إلى علاج، دعه يستمر لكن يترك شيئاً فشيئاً.

كذلك إنسان وجدته أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكاً غاية الانهماك في الدعاء، يبكي بانفعال، هل من الحكمة أن تتركه حتى يقضي وطره ثم بعدئذٍ تكلمه تقول: هذا حرام، هذا شرك لكن بأسلوب، إن النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى بهذا، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليهدم هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] ، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠] وتبين له بلطف، ولا حرج أنك تمسك يده بهدوء وتجلس معه، لأن العقيدة أمرها مشكل، هذا رجل معتقد من بلده إلى أن وصل إلى المدينة أن أكبر فرصة ينتهزها أن يقف أمام قبر النبي عليه الصلاة والسلام ليدعوه، ائت به واجلس معه وطمئنه وبين له، لأن المقصود هو إصلاح حاله وليس الانتقاد، المقصود الإصلاح لا الانتقاد.