[مكانة الحج في الشريعة]
أولاً: الحج ركن من أركان الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله جبريل قال: (أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) .
وقد أجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن من أنكر فرضيته فهو مرتد عن الإسلام، ومن تهاون فيه فهو على خطر، يعني: من تركه مع وجوبه عليه فهو على خطر عظيم، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه قال: إنه يكفر كما لو ترك الصلاة، لكن القول الصحيح أنه لا يكفر ولكنه على خطر: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧] فالحج فريضة، لكنه لا يجب إلا بشروط أهمها: الاستطاعة: أن يكون الإنسان مستطيعاً بماله وبدنه، ولا يكون مستطيعاً بالمال إلا أن يكون المال فاضلاً عن حاجاته وقضاء ديونه، فاضلاً عن حاجاته، أي: ما يحتاج إليه في بيته من طعام وشراب وأواني وفرش وغيرها من الحاجات التي لا بد منها، فإذا قدر أن شخصاً عنده مال لكن يحتاج إلى أواني في البيت، فهل يشتري الأواني ويدع الحج، أو يحج ويدع الأواني، الأول أم الثاني؟ الأول.
نقول: اشتر الأواني، لأنها من الحوائج التي لا بد منها، ثم إن بقي شيء فحج به وإلا فلا.
لا بد أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن الدين، والدين: ما وجب في الذمة من ثمن مبيع أو ثمن أرض أو أجرة أو غير ذلك، ليس الدين خاصاً بالمداينة كما هو معروف عند العامة لا.
الدين شرعاً: كل ما ثبت في الذمة حتى القرض الذي يقترضه الشخص يكون ديناً عليه، حتى أجرة البيت للسكنى يكون ديناً، فلا بد أن يكون المال الذي تحج به فاضلاً عن الديون، فإن كان عليك دين؛ فإن الحج لا يجب عليك، حتى الفريضة لا تجب عليك، فإذا قدر أن شخصاً من الناس بيده ألف ريال، وعليه دين ألف ريال، فهل يقضي الدين بالألف ويدع الحج أو يحج ويبقى الدين في ذمته؟ الأول، فنقول: أوف الدين ثم حج؛ لأنك إذا مت وأنت لم تحج وإنما قضيت الدين مت وأنت بريء من الدين، ولكن لو حججت وبقي الدين في ذمتك ومت، فإن نفسك معلقة بالدين بعد الموت، وبهذا نعرف خطأ كثير من الناس الذين يحجون وعليهم ديون، وإذا قلت: يا أخي الدين مقدم، قال: ديني بمائة ألف والحج بألفين، والألفين ما تساوي شيئاً بالنسبة لمائة ألف، هل هذا منطق صحيح؟ لا.
إذا كان عليك مائة ألف وأديت ألفين، يبقى عليك ثمانية وتسعون ألفاً، أي: فقد سقط شيء من الدين وليس عليك إثم في عدم الوفاء بالثمانية والتسعين، لأنك لم تقدر، ولكن قد يكون عليك إثم إذا حججت بألفين وتركت الوفاء، وهذه مسألة يجب أن نتنبه لها نحن، وأن ننبه عليها إخواننا؛ لأن كثيراً من محبي الخير الحريصين على الحج يحج وهو غارق في الديون بحجة أن المال الذي عنده لا يفي بالدين، لكنه يفي ببعض الدين، حتى لو فرض أنه ريال واحد، وعليك مائة ألف، فإذا أوفيت كم يبقى عليك؟ مائة ألف إلا ريال، فقد سقط عنك من ذمتك شيء ولا تستهن بالدين فالدين شديد.
ألم تعلموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا قدم إليه الرجل ليصلي عليه سأل هل عليه دين أم لا؟ إذا قالوا: عليه دين وليس له وفاء ترك الصلاة عليه وقال: (صلوا على صاحبكم) مع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم ومع ذلك كان يترك الصلاة على الميت الذي هو محتاج إلى الصلاة عليه من أجل الدين.
جيء إليه في يوم من الأيام برجل مدين ميت، فقدم إليه، فلما خطا خطوات ليصلي عليه، قال: (هل عليه دين؟ قالوا: لا نعلم عليه إلا دينارين فقط، فقال: صلوا على صاحبكم، وترك الصلاة عليه، فقام أبو قتادة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله الديناران علي -التزم بها أبو قتادة في ذمته- قال: حق الغريم وبرئ منها الميت؟ قال: نعم.
فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه) .
الشهادة في سبيل الله لا تكفر الدين؛ وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشهادة هل تكفر الذنب؟ قال: (نعم كل شيء) فلما أدبر الرجل دعاه وقال له: (إلا الدين؛ أخبرني بذلك جبريل آنفاً) .
الدين حتى الشهادة لا تكفره، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نتهاون بالدين، وإني لأعجب من قوم مدينين عليهم ديون كثيرة ثم يذهب أحدهم يستدين، يشتري من فلان أو فلان أثاثاً للبيت زائداً عن الحاجة، يشتري كساء للدرج، لأن الدرج ليس عليه كساء، يفرش الدرج وهو فقير عليه ديون، هذا سفه في العقل وضلال في الدين.
هناك قصة وقعت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: (جاءت امرأة للرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: إني وهبت نفسي لك) الرسول عليه الصلاة والسلام يجوز له أن يتزوج الهبة، أما نحن فلا يجوز لنا أن نتزوج بالهبة، لو جاءت امرأة تقول لك: إني وهبت نفسي لك فقلت: قبلت ما صارت زوجتك، لكن لو جاءت للرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: وهبت نفسي لك فقال: قبلت فإنها تصير زوجة له، قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:٥٠] وهذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، جاءت هذه المرأة تقول: (يا رسول الله! وهبت نفسي لك، فصعد بها النظر وصوبه -نظر إلى أعلى بدنها وأسفل بدنها- ثم لم يرغب فيها، فسكت، فجلست المرأة، فقام رجل قال: يا رسول الله -استمع إلى الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها) ما عمل بالقرائن وقال: إن سكوت الرسول دليل على أنه لا يريدها، ما عمل بهذا تأدباً مع الرسول واحتياطاً، قال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أمعك شيء -يعني صداق- قال: نعم.
إزاري) الرجل ما عليه إلا إزار، يعني أعلى بدنه مكشوف ليس عليه رداء، سبحان الله! إزارك إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن لبسته بقيت بلا مهر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد) .
انظر ولو خاتماً من حديد، وباللغة العامية (فتخة) فذهب الرجل يبحث فلم يجد، فرجع وقال: (ما وجدت شيئاً، قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، معي سورة كذا وكذا، قال: زوجتكها بما معك من القرآن) فزوجه بما معه من القرآن.
السؤال
هل قال: اذهب تسلف وتدين؟ لا.
مع أن الرجل في حاجة، مع ذلك ما قال: اذهب فتدين أو تسلف واجعله مهراً، كل هذا لتحاشي الدين، الدين كما يقول العامة: الدين ذل في النهار وسهر في الليل، ولكن هذا لمن كان قلبه حياً، أما من كان قلبه ميتاً فالدين عنده شربة ماء فلا يهتم، يستدين من هذا الرجل مائة ألف ويذهب للثاني يستدين مائة ألف، وهو ما عنده ولا قرش، هذا والله سفه في العقول وضلال في الدين، احم ذمتك، ولا تجعل في ذمتك ديناً إلا لضرورة، أقول هذا تفريعاً على قولنا: إنه لا يجب الحج على من كان عليه دين، وأن الواجب أن يقضي دينه أولاً، ثم بعد ذلك يحج، وليحمد الله على تيسيره، فلو كان الله ألزمنا أن نحج ولو بالاستدانة صار الأمر صعباً، فاحمد الله على التيسير.