للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يشترط في المنفعة أن تكون معلومة علما يمنع المنازعة ويرفع الخلاف , فإن كانت مجهولة جهالة مفضية إلى المنازعة لا يصح العقد لأن هذه الجهالة تمنع من التسليم والتسلم , فلا يحصل المقصود من العقد.

والعلم بالمعقود عليه وهو المنفعة يكون إما بالعرف أو بالوصف , كما اتفق الفقهاء على أن تمام معرفة المنفعة تكون إما ببيان المدة أو بيان العمل ولكنهم اختلفوا في حكم الجمع بين بيان المدة والعمل معا.

معرفة المنفعة بالعرف

العلم بالمعقود عليه وهو المنفعة يكون بالعرف في مثل إجارة الدور والحوانيت , فإن استعمال الدور معروف عرفا , وكذلك استعمال حوانيت كل ناحية من نواحي البلد , فتنعقد إجارتها على منفعته المتعارفة , لأن المعروف بالعرف كالمشروط , وعلى ذلك يتقيد بها المستأجر فلا يخرج عنها.

ومثل ذلك إجارة بعض الأراضي لزراعتها , فإن العرف إذا قضى بزراعتها بأصناف معينة وجب على المستأجر ألا يتجاوزها إلى ما يضر بالأرض.

ولكن إذا استأجرها على أن يزرع فيها ما يشاء لم يتقيد بالعرف , لأن النص أقوى دلالة منه.

معرفة المنفعة بالوصف

وتعرف المنفعة أيضا بالوصف كالاستئجار على صبغ هذا الثوب بلون كذا , أو على خياطته بشكل كذا , أو على دهان المنزل أو على نقل هذا المتاع من جهة كذا إلى جهة كذا , وكذلك مثل استئجار الأرض ليزرع فيها نوع معين من النبات أو ليبني فيها منزلا أو ليغرس فيها أشجار معينة , واستئجار الدابة لركوبها من جهة كذا إلى جهة كذا وغير ذلك من الأمثلة.

معرفة المنفعة ببيان العمل

تعرف المنفعة بتحديد العمل , كاستئجار العامل على بناء حائط أو بناء منزل , أو استئجاره على خياطة هذا الثوب المعين أو حمل البضاعة من مكان إلى مكان آخر محدد , ويصير المعقود عليه هنا معلوما بدون الحاجة لتقدير مدة معينة للبناء أو للخياطة أو للحمل.

وبيان العمل مطلوب في الاستئجار على الأعمال , لأن جهالة العمل تفضي إلى المنازعة , فيفسد العقد. فلو استأجر عاملا , ولم يسم له العمل من الخياطة والرعي وعزق الأرض ونحوه , لم يجز العقد.

وفرق الحنفية بين الأجير الخاص والمشترك فإذا كان الأجير مشتركا , لزم بيان المعمول فيه , إما بالإشارة والتعيين , أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة.

فلو استأجر رجل حفارا لحفر بئر , فلا بد من بيان مكان الحفر وعمق البئر ونوعها وعرضها , لأن عمل الحفر يختلف باختلاف هذه الأوضاع أما في الأجير الخاص فلا يشترط في العقد معه بيان جنس المعمول فيها ونوعه ومقداره وصفته , وإنما يشترط بيان المدة فقط , وكذلك يشترط بيان المدة في استئجار الظئر.

ولا يشترط الفقهاء في إجارة المنافع تعيين العمل فذهب الحنفية إلى أنه لو استأجر رجل دارا وحانوتا , ولم يسم ما يعمل فيه جازت الإجارة , وله أن يسكن فيه بنفسه مع غيره , وله أن يسكن فيه مع غيره بالإجارة والإعارة , وله أن يضع فيه متاعا وغيره , غير أنه لا يستعمل البناء بما يضره ويوهنه , ولا يجعل فيه حدادا ولا قصارا , ولا طحانا , لأن العقد المطلق عن الشرط مقيد بالعرف والعادة.

معرفة المنفعة ببيان المدة

تعرف المنفعة بتحديد المدة , كاستئجار دار للسكنى مدة سنة , أو استئجار العامل على البناء أو رعي الغنم أو الخياطة أو تدريس الحساب والهندسة مدة محددة من الزمن , وفي هذه الحالة يستحق العامل الأجرة بمضي المدة عمل أو لم يعمل , ما دام أنه مستعد للعمل.

وبيان المدة مطلوب في إجارة الدور والمنازل والبيوت والحوانيت (المحلات التجارية) وفي استئجار الظئر (المرضع) لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه , فترك بيانه يفضي إلى المنازعة.

وهو شرط متفق عليه , فالحنفية يشترطون تعيين المدة في إجارة المنافع كإجارة المنازل ونحوها , كما اشترط ذلك الحنابلة في كل ما ليس له عمل كالدور والأراضي.

وتصح الإجارة على أي مدة طالت أو قصرت لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والمالكية , ومنهم الشافعية على الصحيح , فإنهم قالوا:

يصح عقد الإجارة مدة تبقى فيها العين غالبا بحسب رأي أهل الخبرة , ولا يقدر للإجارة أقصى مدة , لأنه دليل من الشرع على ذلك.

والضابط في تحديد المدة عند المالكية هو ألا يتغير الشيء غالبا في مدة الإجارة.

واختلف الفقهاء في صحة العقد في حالة الاتفاق على مدة الإجارة ولكن دون تعيين وقت ابتداء المدة فذهب جمهور الفقهاء وبعض الشافعية إلى صحة العقد عند الاطلاق , ويكون ابتداؤه من حين العقد , واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام {على أن تأجرني ثماني حجج} ففي هذه الآية لم يذكر ابتداء المدة فدل ذلك على صحة العقد عند الاطلاق من تقييد ابتداء المدة.

وذهب البعض الآخر من الشافعية إلى عدم صحة العقد حتى يسمى الشهر أو السنة لأن جهالة الوقت تستلزم جهالة المعقود عليه فلا يصح ذلك.

وبحث الفقهاء مسألة الإجارة مشاهرة أو مياومة أو مسانهة فارتأى الشافعية في الصحيح أنه لا تجوز الإجارة مشاهرة , فإن أجر رجل داره كل شهر بدينار مثلا , أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة بكذا , فالإجارة باطلة لأن كل شهر ونحوه يحتاج إلى عقد جديد لإفراده بأجرة معينة , ولم يوجد عقد , وذلك يقتضي البطلان , هذا بالإضافة إلى جهالة مدة الإجارة فصار كما لو قال: آجرتك مدة أو شهرا.

وذهب الجمهور إلى أنه تصح الإجارة في الشهر الأول ونحو وتلزم , وأما ما عداه من الشهور فلا يلزم إلا بالدخول فيه أو التلبس فيه , لأن شروعه مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره , والرضا ببذله , جرى مجرى ابتداء العقد عليه , وصار كبيع المعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها.

معرفة المنفعة بتعيين المدة والعمل معا

اختلف الفقهاء في بيان المنفعة بالجمع بين تحديد العمل والمدة معا , كاستئجار العامل على بناء منزل في مدة معينة.

فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز في الإجارة على العمل تحديد المنفعة بالمدة والعمل معا لما فيه من الغرر ذلك أن:

- الجمع يجعل المعقود عليه مجهولا , وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد.

فقد يفرغ المستأجر من العمل قبل أن تنتهي المدة المحددة , وقد تنتهي المدة المحددة قبل أن يفرغ من العمل فتكون المنفعة مجهولة.

لذلك أجاز المالكية الجمع فقط إذا كان الزمن أوسع من العمل أو مساويا له عادة.

- الجمع يجعل حكم العقد مضطرب , فالعقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل لأن الأجير يصبح أجيرا خاصا أما العقد على العمل فهو يقتضي وجوب الأجر بالعمل لأن الأجير يصبح أجيرا مشتركا.

بينما أجاز الجمع بعض الفقهاء من الحنابلة وكذلك محمد وأبو يوسف من الحنفية , وقالوا بأن ذلك ليس فيه غرر ولا مخاطرة , لأن المقصود هو عمل معلوم وهو المعقود عليه , أما ذكر المدة فيقصد به الاستعجال فقط ولا يمنع ذكرها جواز العقد.

فإذا فرغ الأجير من العمل قبل تمام المدة , فقد وفى التزامه ولا يلزمه زيادة عمل في المدة الباقية بل يستحق أجره كاملا , أما إن لم ينته من العمل في المدة المحددة فعليه أن يكمله بعد ذلك للوفاء بما التزمه ويكون المستأجر بالخيار بين إمضاء العقد أو الفسخ.

هذا وقد منع الحنابلة الجمع بين العمل والمدة في إجارة منافع الأعيان فقد جاء في التقنين الحنبلي (م٥١٨) : (العين إما تكون معينة أو موصوفة , وتقدر المنفعة فيها بالمدة أو العمل) .

وعليه إن لم يكن المأجور له عمل كالدار والأرض , لم تجز إجارته إلا على مدة , ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل , لأن الجمع بينهما يزيد الإيجار غررا لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة فإن استعمل المأجور في بقية المدة , فقد زاد على ما وقع عليه العقد , وان لم يعمل , كان تاركا للعمل في بعض المدة.

وقد لا يفرغ الأجير من العمل في المدة , فإن أتمه بعدها عمل في غير المدة , وإن لم يعمله , لم يأت بما وقع عليه العقد , وهذا غرر أمكن التحرز عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>