[دليل مشروعية الاستصناع]
جاء في المدونة في الفقه المالكي (٩ / ١٨)
باب السلف في الصناعات:
قلت: ما قول مالك في رجل استصنع طشتا أو تورا , أو قمقما , أو خفين , أو استنحت سرجا أو قدحا , أو شيئا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون عند الصناع , فاستعمل (أي طلب أن يعمل له) من ذلك شيئا موصوفا , وضرب لذلك أجلا بعيدا , وجعل لرأس المال أجلا بعيدا , أيكون هذا سلما , أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلا بعيدا أو يكون بيعا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلا بعيدا , وجعل ذلك مضمونا على الذي يعملها بصفة معلومة , وليس من شيء بعينه يريه , يعمله منه , ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه , وقدم رأس المال , أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين , ولم يضرب لرأس المال أجلا , فهذا السلف (أي السلم) جائز , وهو لازم للذي عليه , يأتي به إذا حل الأجل على صفة ما وصفا.
قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلا بعيدا , والمسألة على حالها , فسد وصار دينا في دين في قول مالك؟
قال: نعم.
قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلا , واشترط أن يعمله هو بنفسه؟
قال: لا يكون هذا سلفا , لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل , وشرط عليه عمل نفسه , وقدم نقده , فهو لا يدري أيسلم ذلك الرجل إلى ذلك الأجل أم لا فهذا من الغرر. وهو إن سلم عمله له , وان لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا , فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلا.
قلت: لم.
قال: لأنه لا يدرى أيسلم ذلك الحديد أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا. ولا يكون السلف في شيء بعينه فلذلك لا يجوز في قول مالك.
وجاء في الشرح الصغير للدردير
استصناع سيف , أو ركاب من حديد , أو سرج من سروجي , أو ثوب من حياك , أو باب من نجار , على صفة معلومة , بثمن معلوم , يجوز - وهو سلم تشترط فيه شروطه
- إن لم يعلن العامل والمعمول منه , فإن عينه فسد , نحو قوله: أنت الذي تصنعه بنفسك , أو يصطنعه زيد بنفسه , أو تصطنعه من هذا الحديد بعينه , أو من هذا الغزل , أو من هذا الخشب بعينه , لأنه حينئذ صار معينا , لا في الذمة , وشرط صحة السلم كون المسلم فيه دينا في الذمة.
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٣ / ٢١٣)
استصناع السيف والسرج سلم , سواء كان الصانع المعقود معه دائم العمل أم لا , كأن تقول لإنسان: اصنع لي سيفا , أو سرجا , صفته كذا , بدينار , فلا بد من تعجيل رأس المال وضرب الأجل , وأن لا يعين العامل ولا المعمول منه.
وجاء في الشرح الكبير للدردير المالكي (٣ / ٢١٧)
أما إن اشتري المعمول منه , وعينه , ودخل في ضمانه , واستأجر الصانع بعد ذلك على عمله جاز إن شرع في العمل , ولو حكما , كتأخيره لنصف شهر , عين عامله أم لا.
وقال الدسوقي في حاشيته عليه: ويجوز ذلك سواء شرط تعجيل النقد أو لا , لأنه من باب البيع والإجارة في الشيء , وهو جائز وسواء كان العامل معينا أو لا , بشرط أن يشرع في العمل. أما لو استأجر غير البائع , جاز من غير قيد الشروع.
وجاء في الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية (٢ / ٣٨)
وقال زفر لا يحوز الاستصناع لأنه من بيع المعدوم.
وجاء في شرح فتح القدير لابن الهمام (٧ / ١١٤)
القياس أن الاستصناع لا يجوز , وهو قول زفر والشافعي
إذ لا يمكن جعله إجارة , لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير , وذلك لا يجوز , كما لو قال: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا , أو: اصبغ ثوبك أحمر بكذا , لا يصح.
ولا يمكن جعله بيعا , لأنه بيع معدوم , ولو كان موجودا مملوكا لغير العاقد لم يجز.
فإذا كان معدوما فهو أولى بعدم الجواز , ولكن جوزناه استحسانا , للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي.
وجاء في كتاب الأم للإمام الشافعي (٢ / ١١٦)
لا بأس أن يسلفه في طشت أو تور , من نحاس , أو شبه , أو رصاص , أو حديد , ويشترطه بسعة معروفة , ومضروبا أو مفرغا , وبصنعة معروفة , ويصفه بالثخانة أو الرقة , ويضرب له أجلا , كهو في الثياب.
وإذا جاء به على ما يقع عليه اسم الصنعة والشرط لزمه , ولم يكن له رده.
قال: ولو كان مع شرط السعة وزن كان أصح , وإن لم يشترط وزنا صح إذا اشترط سعة.
قال: ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد , أو نحاس ورصاص , لم يجز , لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما.
قال: وهكذا كل ما استصنع.
ولا خير في أن يسلف في قلنسوة محشوة , وذلك أنه لا يضبط وزن حشوها ولا صفته , ولا يوقف على حد بطانتها , ولا تشترى هذه إلا يدا بيد. .
ولا خير في أن يسلفه في خفين , ولا نعلين مخروزين , وذلك أنهما لا يوصفان بطول ولا عرض , ولا تضبط جلودهما , ولا ما يدخل فيهما. وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين , ويستأجر على الحذو , وعلى خراز الخفين.
وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (٣ / ٢١٦ / ٢١٧)
ويجوز الشراء من دائم العمل , وهو من لا يفتر عنه , أو من في حكمه , وهو من كان من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده , كالخباز , بنقد , وبغير نقد , فلا يشترط تعجيل رأس المال ولا تأجيل المثمن , لأنه ليس سلما , بل هو بيع (أي بيع مطلق) والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام , كقنطار بكذا يأخذ منه كل يوم رطلين. وإنما جاز لأنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع.
وإن لم يكن دائم العمل فهو سلم كاستصناع سيف أو سرج. ويفسد بتعيين العامل أو المعمول منه.
وجاء في الفروع لابن مفلح من الحنابلة (٤ / ٢٤)
ذكر القاضي وأصحابه (لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) .
وجاء في كشاف القناع للبهوتي الحنبلي (٣ / ١٥٤)
لا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له , لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم. . وهو قول القاضي وأصحابه.
قال الكاساني في كتابه بدائع الصنائع (٦ / ١٦٧٨)
أما جوازه فالقياس أن لا يجوز , لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم.
ويحوز استحسانا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير , والقياس يترك بالإجماع.
ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة , ومقدار الماء الذي يستعمل , ولأن الحاجة تدعو إليه , لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص , على قدر مخصوص وصفة مخصوصة , وقلما يتفق وجوده مصنوعا , فيحتاج أن يستصنع , فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.
وجاء في الهداية للمرغيناني (٧ / ١١٤)
يجوز استحسانا أن يستصنع طستا أو خفين أو نحو ذلك وفي القياس لا يجوز الاستصناع لأنه بيع المعدوم.
وجاء في شرح فتح القدير (٧ / ١١٤)
يجوز الاستصناع استحسانا فيما جرى فيه التعامل , ولا يجوز قياسا.
وجه الاستحسان الإجماع الثابت بالتعامل , فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير.
وجاء في الاختيار لتعليل المختار , للموصلي (٢ / ٣٨) .
القياس يأبى جواز الاستصناع , لكنا استحسنا جوازه للتعامل بين الناس من غير نكير , فكان إجماعا , وبمثله يترك القياس والنظر , ويخص , الكتاب , والخبر.
وجاء في الفتاوى الهندية (٤ / ٥١٧)
يجوز الاستصناع استحسانا , لتعامل الناس وتعارفهم من غير نكير في سائر الأعصار. كذا في محيط السرخسي.
جاء في بدائع الصنائع للكاساني (٦ / ١٦٧٨)
يجوز الاستصناع استحسانا , لإجماع الناس على ذلك. . ولأن الحاجة تدعو إليه. . فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.
وجاء في شرح فتح القدير (٧ / ١١٥)
جوزناه استحسانا للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي , من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير , والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتى على ضلالة.
وقد استصنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما.... واحتجم وأعطى الحجام أجره.... وفيما لا تعامل فيه رجعنا إلى القياس.