للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالنظر إلى التعامل المصرفي في خطابات الضمان ولا سيما تعامل المصارف الإسلامية بهذا النوع من العمليات , فإنه يمكن ردها إلى نوعين من العقود التي طرقها الفقهاء , وهما الكفالة والوكالة.

فالعلاقة بين المصرف والجهة المستفيدة بخطاب الضمان هي علاقة كفالة في كل الأحوال , أما العلاقة بين المصرف مصدر خطاب الضمان وبين العميل طالب الخطاب فهي تارة تكون علاقة كفالة وتارة تكون علاقة وكالة:

فإن كان خطاب الضمان بدون غطاء نقدي كامل من العميل فهو يعتبر عقد كفالة ويخضع لأحكامها , لأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة , وفي خطاب الضمان تضم ذمة المصرف إلى ذمة طالب الإصدار لمصلحة الطرف الثالث , وعلى هذا فالكفيل هو المصرف والمكفول هو العميل والمكفول له هو الطرف الثالث.

وعليه يكون خطاب الضمان هو عقد الضمان المعروف في الفقه الإسلامي اسما ومعنى إذ أن تعريفات الفقهاء لعقد الكفالة أو الضمان متفقة مع تعريف خطاب الضمان في جوهره , وهو أنه التزام الشخص مالا واجبا على غيره لشخص ثالث , وأركان خطاب الضمان هي أركان الضمان في الفقه الإسلامي.

وأما ما ورد في تعريفات خطاب الضمان من أحكام زائدة عما ورد في تعريفات الفقهاء , فكلها لها أصل في الفقه الإسلامي ذكرها الفقهاء عند ذكرهم لأحكام الضمان.

فكون خطاب الضمان موقتا بمدة محددة ينتهى الضمان بانتهائها , كما هو واضح من التعريف له أصل في المذهب الحنفي والحنبلي.

وكون المبلغ المضمون في خطاب الضمان غير ثابت في ذمة العميل عند العقد ولكنه قد يثبت في المستقبل إذا أخل بالتزامه , فهذا أيضا جائز في عقد الضمان عند الحنفية والمالكية والحنابلة , وعند الشافعي في أحد قوليه.

وكون المبلغ المضمون في خطاب الضمان قد لا يكون معلوما عند العقد , ذلك أنه من المتصور أن يصدر الخطاب بغير تحديد مبلغ وإن كان حدوثه نادرا , وفي مثل هذه الحالة يتعهد البنك أن يضمن عميله في كل ما يسببه تصرفه من ضرر للغير أي المستفيد.

وهذا لا مانع منه شرعا لأن الضمان يصح ولو كان المال المضمون مجهولا عند أكثر الفقهاء إذ أن الضمان مبني على التوسع , وهو من إيجاب المرء المعروف على نفسه ومن أوجب المعروف على نفسه لزمه.

وكون التزام البنك بدفع المبلغ للمستفيد مشروط بعدم وفاء العميل بالتزامه مقبول في الضمان في الفقه الإسلامي , لأنه أما أن يكون تعليقا للضمان على فشل العميل في أداء التزامه , وتعليق الضمان بالشرط الملائم جائز عند الحنفية والمالكية وفي أحد قولين عند الحنابلة.

وإما أن يكون التزاما بالدفع عند فشل العميل في دفع المبلغ المستحق عليه نتيجة لإخلاله بالتزامه , وهذا جائز أيضا على رأي مالك المرجوع إليه من أنه لا تجوز مطالبة الكفيل إلا عند تعذر مطالبة الأصيل.

وأما إذا صدر خطاب الضمان بغطاء نقدي كلي أو جزئي

أي أن المصرف يطالب العميل بدفع المبلغ المضمون كله أو بعضه , فقد تحدث عنها فقهاء المذاهب الأربعة , والذي يظهر من أقوالهم أنه لا خلاف بينهم في جواز أخذ الغطاء النقدي إذا كان باتفاق الطرفين , الضامن والمضمون , عند العقد.

وهذا هو الحاصل في إصدار البنوك لخطابات الضمان , ولا مانع أيضا من أخذه بعد العقد باتفاقهما.

والخلاف الحاصل بين الفقهاء هو في مطالبة الضامن بالمبلغ المضمون - الغطاء - بعد العقد , وقبل مطالبة المضمون له به , والزام المضمون بدفعه , فقد منعه أكثرهم وأجازه الحنابلة في وجه , وهذا لا يحدث في معاملة البنوك.

وقد ذكر الفقهاء أحكاما تتعلق بهذه المسألة لها فائدة كبيرة في موضوعنا , فقالوا: إن المضمون إذا دفع المال المضمون - الغطاء - أما أن يدفعه له على وجه القضاء , أو يدفعه على وجه الرسالة أو التوكيل:

- فإن دفعه على وجه القضاء ملكه الضامن عند الحنفية وليس للمضمون أن يسترده منه , ويجوز للضامن أن يتصرف فيه بالاستثمار وغيره , وله ربحه , وإذا هلك المال ضمنه. ذلك أن الضامن يملك المال حين قبضه ويكون الربح الحاصل من ملكه طيب له لا محالة.

- أما إذا دفع المضمون المال للضامن على وجه الرسالة أو التوكيل , فإن المال يكون أمانة في يد الضامن , ولكن ليس للمضمون أن يسترده من الضامن لأنه تعلق به حق للغير هو المضمون له , ولا يجوز للضامن التصرف فيه , وإذا هلك يهلك هلاك الأمانة , وإذا استثمره خالف ما يجب فيما يعد أمانة , وأصبح كالغاصب فإن ربح فلا يطيب له هذا الربح عند أبي حنيفة ومحمد لأنه استفاده من أصل خبيث , ويطيب له في رأي أبي يوسف لأن الخراج بالضمان.

وهذا الخلاف جار في الوديعة إذا تصرف فيها الوديع وربح.

ويرى بعض الفقهاء المعاصرين ومنهم الدكتور علي السالوس والدكتور وهبة الزحيلي أنه في حال كون الغطاء النقدي من العميل , يكون الأولى أن يخير المصرف العميل طالب إصدار خطاب الضمان بين استثمار الغطاء لحسابه فيكون له ما لبقية المستثمرين في البنك من حقوق ولا ضمان على المصرف حينئذ , وبين إبقاء الغطاء في ضمان البنك فيكون حاله كحال الحسابات الجارية يحق للبنك استثماره والتمتع بربحه أو تحمل خسارته لأن الخراج بالضمان كما قال الفقهاء.

تكييف خطابات الضمان

وهذا الحكم يكشف لنا عن حقيقة هامة بالنسبة لتكييف خطاب الضمان المغطى , فقد ذهبت كثير من هيئات الفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية وكذلك توصيات مختلف الندوات والمؤتمرات إلى تكييف خطاب الضمان بالكفالة والوكالة معا: كفالة بالنسبة لعلاقة البنك مع المستفيد , ووكالة بالنسبة لعلاقة البنك مع العميل. وهذا التكييف يقيد خطاب الضمان بأحكام الوكالة: فالبنك يأخذ الغطاء على وجه الوكالة , وبالتالي لا يجوز له التصرف في الغطاء إلا فيما أخذ من أجله , وهذا ما يمنعه من استثماره وتحقيق ربح لحسابه ولكن يكون استثماره لفائدة العميل بنفس الشروط التي يستثمر بها البنك ودائع المودعين.

وذهب الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير إلى تكييف خطاب الضمان على أنه كفالة - ضمان - فقط في حالة خطاب الضمان المغطى وخطاب الضمان غير المغطى , فهو يرى أن الذي ينبغي أن يحمل عليه دفع العميل الغطاء للبنك في حالة إصدار خطابات الضمان هو الدفع على وجه القضاء , لأن البنوك تستثمر الغطاءات , وتربح منها , فلو حملنا الدفع على وجه الوكالة ما جاز لها التصرف في الغطاء.

وعلى هذا الأساس فإن خطابات الضمان بجميع أنواعها يجوز إصدارها , لأنها أما أن تكون كفالة فقط , أو كفالة ووكالة وبما أن كلا من الكفالة والوكالة مشروع , فإن إصدار خطابات الضمان تكون مشروعة وصحيحة , ولازمة بالنسبة للبنك ما لم يصاحبها ما يفسدها , كأن يكون محل العقد محظورا أو يكون إصدارها مقابل جعل على الضمان.

وبناء عليه , لا يجوز للبنك أخذ الأجر على خطاب الضمان في حد ذاته (والتي تراعي فيها البنوك التقليدية مبلغ الضمان ومدته) , لأنه يكون قد أخذ أجرا على الكفالة وهو ممنوع , لأن الكفالة من عقود التبرعات المقصودة للإرفاق والإحسان. فلو كفل شخص غيره بمال على أن يجعل الطالب له جعلا , فإن لم يكن مشروطا في الكفالة فالشرط باطل , وإن كان مشروطا في الكفالة فالكفالة باطلة , والكفالة عقد لازم لا يجوز للكفيل فسخه بإرادته المنفردة.

ولكن يجوز للبنك أخذ أجر مقابل الخدمات والإجراءات والمصاريف الإدارية التي يتطلبها إصدار الخطاب وهو أجر مقطوع بمبلغ محدد , مثل مئة أو ألف , أو بالنسبة مثل ١ % و ٢ % لأن الأجرة بنسبة العمل , بشرط إتمام حساب الأجر على العمل قبل تحقق شرط الدفع أو المطالبة بالأداء , فالأجر مقابل الخدمة التي يقوم بها البنك , دون ارتباطه بمبلغ الكفالة أو مدتها , سواء أكان بغطاء أم بدونه. وليس في هذا ربا , لأنه ليس زيادة على عوض , وإنما هو أجر على عمل , بشرط عدم المغالاة في تقدير الأجرة , ومراعاة ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.

واتجه العلماء المعاصرون وهيئات الرقابة في البنوك الإسلامية إلى أنه في حال توافر الغطاء النقدي الكلي أو الجزئي , يجوز للبنك أخذ الأجر مقابل الخدمات الإجرائية , فإذا دفع البنك المبلغ للمستفيد فهو من مال المضمون عنه , وإذا لم يدفع فهو مقابل حفظه لماله وخدماته , وذلك بناء على الوكالة بأجر الجائزة اتفاقا في الفقه الإسلامي بالنسبة للعميل طالب الضمان , وأما بالنسبة للمستفيد فيعد البنك ضامنا الأداء وكفيلا في علاقته معه.

<<  <  ج: ص:  >  >>