اتفق العلماء المعاصرون على جواز تعامل المصارف الإسلامية في الاعتمادات المستندية إذا خلت من المحظورات الشرعية. ولكن تنوعت تكييفاتهم الفقهية لهذه العمليات , ونعرض هنا أهم تلك التكييفات وفقا لنوعية الاعتماد.
الاعتماد المستندي القابل للإلغاء
في الاعتماد المستندي القابل للإلغاء , يقتصر دور المصرف فاتح الاعتماد في تنفيذ أوامر عميله المشتري (المستورد) بخصوص فحصه للمستندات وسداده الثمن , ويمكن له تعديل أو إلغاء الاعتماد القابل للنقض دونما حاجة لإخطار المستفيد مسبقا. كما يقتصر دور المصرف المراسل في تبليغ الاعتماد إلى المستفيد دون أي التزام من جانبه ما خلا الاهتمام بالتحقق من صحة ظاهر الاعتماد الذي يبلغه.
فكل من المصرف فاتح الاعتماد والمصرف المراسل لا يخرج تصرفهما عن تصرف الوكيل , فهما ينفذان أوامر الاعتماد دون أي تعهد أو التزام من جانبهم. والوكالة من الأعمال المقبولة شرعا , ويجوز أخذ الأجر عليها.
الاعتماد المستندي القطعي
في الاعتماد المستندي القطعي , يقع الالتزام بالسداد للمصدر على عاتق المصرف فاتح الاعتماد الذي يقدم تعهدا ثابتا من جانبه بالدفع عند استلام المستندات أو في التواريخ المتفق عليها طبقا لشروط الاعتماد. وفي هذه الحالة يختلف التكييف الشرعي للعلاقة بين المصرف فاتح الاعتماد وعميله بحسب الاتفاق المبرم بينهما:
- فإذا كان الاعتماد مغطى كليا: بحيث يقوم طالب الاعتماد بتغطية مبلغه بالكامل للمصرف , ليقوم المصرف بتسديد ثمن البضاعة للبائعين لدى وصول المستندات إليه. فلا شك أن العلاقة بين الطرفين تكون حينئذ على أساس الوكالة , إذ لا يتضمن الاعتماد تقديم تمويل من قبل المصرف وإنما يتم التمويل جميعه من قبل العميل نفسه , فما يؤديه المصرف من خدمات في هذا الموضوع إنما يكون بتفويض من قبل العميل وهو يقوم بها كوكيل عنه , ويجوز له أخذ نظير تلك الخدمات أجرا محددا يتفق عليه مع العميل سواء كان محددا بمبلغ مقطوع أو بنسبة من مبلغ الاعتماد.
ولكن لا يجوز شرعا احتساب ذلك الأجر (أو ما يسمى في العرف المصرفي عمولة إصدار خطاب الاعتماد المستندي) على أساس مدة الاعتماد , وإنما يتم الحساب على أساس تقدير الجهد المبذول والتكلفة التي يتحملها المصرف عند إصدار خطاب الاعتماد المستندي وما يسبق ذلك من دراسة وتقييم لأوضاع العميل المالية للتثبت من مدى ملاءته وقدرته على الوفاء بالتزاماته. ولا مانع حينئذ من وضع جدول عمولات متفاوتة المقدار تبعا لتفاوت مبلغ الاعتماد إذا كان اختلاف المبلغ يتطلب جهدا متفاوتا لاختلاف الدراسات والصلاحيات الإدارية والمتابعة , فيكون المبلغ قرينة على كمية الجهد.
وحيث يتصرف المصرف تصرف الوكيل عند قيامه بإجراءات فتح الاعتماد , فإنه يحق له أخد كامل مبلغ الاعتماد من العميل , كما يحق له أيضا الحجز على حساب الوديعة الاستثمارية الخاصة به أو على حسابه الجاري لديه. ويعتبر الحجز على الوديعة الاستثمارية منعا للشريك من حق الاسترداد الجزئي أو الكلي لحصته مع بقاء ربحها له , وذلك لضمان إمكانية المقاصة بين الالتزام الناشئ عن فتح الاعتماد وبين تلك الحصة. كما يعتبر الحجز من الحساب الجاري الخاص بالعميل اتفاق على امتناع المقرض (صاحب الحساب الجاري) من استرداد القرض خلال مدة الحجز ليظل صالحا للمقاصة فيصبح للقرض في هذه الحالة أجل محدد وهذا الأجل ملزم للمقرض أخذا بمذهب المالكية القائلين بأن الأجل في القرض ملزم.
- وإذا كان الاعتماد غير مغطى كليا بحيث يستخدم المصرف أمواله في تنفيذ الاعتماد , فإن التطبيق العملي لذلك يمكن أن يكون على حالتين:
في الحالة الأولى يتم عقد بيع البضاعة بين عميل المصرف بصفته المشتري والبائع المستفيد من الاعتماد , ويتحدد دور المصرف من ناحية في تنفيذ إجراءات الاعتماد بصفته وكيلا عن العميل , وفي ضمان العميل فاتح الاعتماد تجاه البائع المستفيد من ناحية أخرى , فيكون المصرف كفيلا بالدين الثابت في ذمة عميله , ويلتزم بدفع ثمن البضاعة حين وصول المستندات. وهنا يجمع المصرف بين صفتي الوكيل والكفيل , ولا يحق له أخذ أجر مقابل الكفالة ذاتها لأن الإجماع منعقد على عدم جواز الأجر على الضمان , ولكن يطيب له أخذ الأجر مقابل الخدمات التي يقدمها على أن يكون ذلك في حدود الجهد المبذول والتكلفة التي يتحملها عند إصدار خطاب الاعتماد وما يسبق ذلك من دراسة وتقييم لأوضاع العميل المالية للتثبت من مدى ملائمته وقدرته على الوفاء بالتزاماته.
وفي الحالة الثانية يدخل المصرف في هذه المعاملة كطرف رئيسي , فعقد البيع لا يتم بين عميل المصرف والبائع وإنما يتم بين هذا الأخير والمصرف مباشرة. ولا يطلب العميل هنا فتح اعتماد لفائدة البائع المستفيد بل يطلب من المصرف شراء المبيع من البائع مباشرة ويقدم وعدا بشراء هذا المبيع بسعر متفق عليه بعد أن يتسلمه المصرف , ويتبين أن صيغة المعاملة تتحول إلى بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه البنوك الإسلامية. وعليه يفتح المصرف الاعتماد باسمه لفائدة البائع المستفيد , ويلتزم بدفع الثمن أصالة عن نفسه , ثم بعد استلام المبيع يتعاقد مع العميل الواعد بالشراء لبيعه له.
- وإذا كان الاعتماد مغطى جزئيا بحيث يقدم العميل جزءا من قيمة الاعتماد , ويستخدم المصرف أمواله الخاصة لتغطية الجزء غير المغطى , فإن التطبيق العملي يمكن أيضا أن يكون على من حالتين:
في الحالة الأولى يتم عقد بيع البضاعة بين عميل المصرف بصفته المشتري والبائع المستفيد من الاعتماد , ويكون المصرف وكيلا بالنسبة لتنفيذه إجراءات الاعتماد وكفيلا بالنسبة للمقدار الباقي من الالتزام أي الجزء غير المغطى. فالمصرف يجمع بين صفتي الوكيل والكفيل , وتنطبق عليه الأحكام المقررة من عدم جواز أخذ الأجر على الضمان , واقتصار العمولة على أجر الوكالة في حدود الجهد المبذول والتكلفة التي يتحملها المصرف عند إصدار خطاب الاعتماد.
وفي الحالة الثانية يدخل المصرف في هذه المعاملة كطرف رئيسي , وهذا ما تطبقه بعض البنوك الإسلامية. فيكون المصرف شريكا بالأموال لعميله , ويتحول العقد من وكالة أو كفالة مجردة إلى مشاركة في عملية استثمارية تخضع لقواعد المشاركات الشرعية , ويحصل فيها المصرف على نسبة من أرباح العملية وليس عمولة أو أجرا محددا نظير عمله.
ويترتب على هذه الصيغة مسئولية التزام البنك بالسداد في العقد المبرم بين المستفيد من الاعتماد وبين عميل المصرف فاتح الاعتماد الذي يكون حينئذ شريكا للمصرف. وفي تطبيق هذا الأسلوب عادة ما يدخل المصرف شريكا في العملية حتى إحضار البضاعة , ويكون للعميل الحق في تملكها بعد إحضارها عن طريق تقييم البضاعة وتثمينها مرة أخرى بالاتفاق مع البنك , كما يتم أيضا بيع حصة المصرف عن طريق بيع المرابحة.
الاعتماد المستندي القطعي المعزز
إذا كان الاعتماد المستندي غير معزز من قبل المصرف المراسل بحيث يقتصر دوره على مجرد القيام بوظيفة الوسيط في تنفيذ الاعتماد نظير عمولة , ولا الزام عليه بالسداد إذا توقف المصرف فاتح الاعتماد عن الدفع , فإن تصرف المصرف المراسل وتنفيذه لإجراءات الاعتماد لا يخرج عن كونه من أعمال الوكالة الجائزة , سواء قلنا بأنه وكيل عن المستفيد في قبض الثمن أو وكيلا عن المصرف فاتح الاعتماد في تبليغ الاعتماد وتنفيذه قبل المستفيد.
أما إذا كان الاعتماد معززا بحيث يضيف المصرف المراسل تعهده إلى تعهد المصرف الذي قام بفتح الاعتماد , فيلتزم بدفع القيمة في جميع الظروف ما دامت المستندات مطابقة للشروط , ويجمع في هذه الحالة بين صفتي الوكيل والكفيل , فتنطبق عليه الأحكام المقررة فيهما.