للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ضمان العين المستأجرة

إذا استأجر رجل شيئا للانتفاع به كدار أو سيارة , فإن يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة المنافع تعتبر يد أمانة , فلا يضمن ما يتلفه بيده إلا بالتعدي أو بالتقصير في الحفظ , ويتقيد في الانتفاع بمقتضى العقد وبما شرط فيها أو جرى به العرف.

ضمان الأجير الخاص

أما الأجير الخاص (وهو الذي يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة , وإن لم يعلم) كالخادم في المنزل والأجير في المحل , فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على أنه لا يكون ضامنا العين التي تسلم إليه للعمل فيها لأنه يده يد أمانة , كالوكيل والمضارب كما إذا استأجر إنسان خياطا أو حدادا مدة يوم أو شهر ليعمل له وحده , فلا يضمن العين التي تهلك في يده ما لم يحصل منه تعد أو تقصير في حفظه سواء تلف الشيء في يده أو أثناء عمله.

ضمان الأجير المشترك

وأما الأجير المشترك (وهو الذي يعمل لعامة الناس , أو هو الذي يستحق الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس , كالصانع والصباغ والقصار ونحوهم) فقد اتفق الفقهاء على أنه يضمن إذا تعدى أو فرط ولكنهم اختلفوا في تضمينه في حالة عدم التعدي وعدم التقصير:

فذهب جماعة من الفقهاء إلى عدم تضمين الأجير المشترك وتكون يده يد أمانة كالأجير الخاص , فلا يضمن ما تلف عنده إلا بالتعدي أو التقصير , وهذا هو قول أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد والحنابلة في الصحيح من مذهبهم , وأيضا في القول الصحيح للشافعية.

ودليلهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه فإذا جعلناه ضامنا أخذنا ماله بغير رضاه دون سبب شرعي ولأن الأصل ألا يجب الضمان إلا بالاعتداء لقوله تعالى: {فلا عدوان إلا على الظالمين} (البقرة: ١٩٣) ولم يوجد التعدي من هذا الأجير لأنه مأذون في القبض والهلاك ليس هو سببا فيه , وإذا لم يوجد التعدي لا ضمان.

كما أنهم قاسوا الأجير المشترك على الأجير الخاص وكذلك على مستأجر العين , فتكون يده يد أمانة مثلهما.

وذهب جماعة من الفقهاء إلى تضمين الأجير المشترك فقال الصاحبان وأحمد في رواية أخرى: يد الأجير المشترك يد ضمان , فهو ضامن لما يهلك في يده , ولو بغير تعد أو تقصير منه , إلا إذا حصل الهلاك بحريق غالب عام , أو غرق غالب ونحوهما.

قال البغدادي عن بعض كتب الحنفية: وبقول الصالحين يفتى اليوم لتغير أحوال الناس , وبه يحصل صيانة أموالهم.

كما ذهب المالكية إلى أنه يضمن الأجير المشترك الذي يؤثره الأعيان بصنع , ما تلف بيده ولو بغير تعد أو تقصير , إذا كان الشيء مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) فالقصار ضامن لما يتخرق بيده , والطباخ ضامن لما أفسده من طبيخه , والخباز ضامن لما أفسده من خبزه , والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه , أو تلف أثناء عثرته , والجمال يضمن ما تلف بقيادته وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به بعيره , والملاح يضمن ما تلف من يده , أو مما يعالج به السفينة وكذلك يضمن الأجير عند الإمام مالك الطعام الذي يحمله إذا كانت تتشوق النفس إلى تناوله سدا للذرائع.

ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: على اليد ما أخذت حتى ترده والعامل أخذ العين فوجب عليه ردها أو ضمانها.

وأيضا جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ , ويقول: لا يصلح الناس إلا ذلك.

كما روى الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعي فضمنها عمر رضي الله عنه.

وكذلك قضى الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع وإن لم يتعدوا ذلك أن التضمين من المصالح العامة فوجب أن يكون مشروعا لأن الصناع يسهل عليهم التصرف فيما تحت أيديهم ويدعون هلاكه , ففي تضمينهم حفظ لأموال الناس وصيانته.

ما يغير صفة الشيء من أمانة إلى ضمان

إذا كان الشيء المأجور , كثوب الصباغة والخياطة والمتاع المحمول في السفينة أو على الدابة يعتبر أمانة في يد الأجير , فذلك بحسب الأصل العام عند أبي حنيفة ومن وافقه.

وبناء عليه , فقد تتغير صفة الأمانة إلى الضمان في الأحوال التالية:

أولا - الحفظ:

أي أن الأجير يهمل في حفظ المتاع , فيلتزم بضمانه , لأن الأجير لما قبض المأجور فقد التزم حفظه , وترك الحفظ موجب للضمان , كالوديع إذا ترك حفظ الوديعة حتى ضاعت.

ثانيا - الإتلاف والإفساد:

إذا تعدى الأجير , بأن تعمد الإتلاف أو بالغ في دق الثوب مثلا , ضمن سواء أكان الأجير مشتركا أم خاصا.

وإن لم يكن الأجير متعديا في الإفساد , بأن أفسد الثوب خطأ بعمله من غير قصده: فإن كان الأجير خاصا , لم يضمن اتفاقا.

وإن كان الأجير مشتركا , كالقصار إذا دق الثوب فتخرق , أو ألقاه في المواد الكيماوية فاحترق , أو كالملاح إذا غرقت السفينة من عمله , أو الحمال إذا سقط على الأرض وفسد الحمل , أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب فضرب بعضها بعضا في حال سوقه حتى هلك بعضها , ففي كل هذه الحالات يكون الهالك مضمونا عند أبي حنيفة وصاحبيه لأن العمل المأذون فيه هو العمل المصلح لا المفسد , لأن العاقل لا يرضى بإفساد ماله , ولا يلتزم الأجرة بمقابلة الفاسد , فيتقيد الأمر بما يصلح دلالة.

وذهب الشافعية وزفر إلى أن الأجير في تلك الحالات لا يضمن ما لم يحصل منه تعد أو تقصير في عمله لأن عمله مأذون فيه في الجملة.

وإذا لم يكن مأذونا فيه فلا يمكنه التحرز عن هذا الفساد , لأنه ليس في وسعه القيام بأصل مهمته إلا بحرج , والحرج منفي.

فالبزاغ والفصاد والختان ومثلهم الطبيب الجراح , إذا كانوا يقومون بعملهم , ثم سرى أثر العمل إلى تلف النفس والموت فلا ضمان عليهم , لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك.

ثالثا - مخالفة المستأجر شرط المؤجر نصا أو دلالة:

تكون المخالفة هذه سببا لوجوب الضمان , وللمخالفة صور وهي إما في الجنس أو القدر أو الصفة أو المكان أو الزمان.

وتحدث المخالفة عادة إما في استئجار الدواب ومثلها السيارات , وإما في استئجار الصناع.

أ - استئجار الدواب:

في حالة استئجار الدواب إما أن يكون ضرر الدابة من جهة الخفة والثقل , أو بسبب اختلاف الجنس.

فإذا كان ضرر الدابة من ناحية الخفة والثقل:

فإن كان الشيء المحمول مثل المتفق عليه مع المؤجر أو أخف , فلا شيء على المستأجر بهلاك الدابة لأن التعيين بشيء محمول لا فائدة منه , وليس هناك مخالفة في المعنى في تحميل مثل الشيء أو دونه.

وإن كان الشيء المحمول أثقل من المتفق عليه:

فإن كان بخلاف جنسه بأن حمل مكان الشعير الحنطة , فعطبت الدابة , فهو ضامن قيمتها ولا أجر عليه لأنها هلكت بفعل غير مسموح به من المؤجر , ولأن الأجر والضمان لا يجتمعان , لأن وجوب الضمان لصيرورته غاصبا , ولا أجرة على الغاصب.

وإن كان الشيء المحمول الذي هو أثقل من جنس المتفق عليه , بأن حمل أحد عشر رطلا مثلا , مكان عشرة أرطال , فإن سملت الدابة , فعليه ما سمي من الأجرة , ولا ضمان عليه.

وإن عطبت ضمن جزءا من أحد عشر جزءا من قيمة الدابة , وعليه الأجر الذي سمي , لأن الدابة ماتت بفعل مأذون فيه وغير مأذون فيه , فيقسم التلف على قدر ذلك أي أحد عشر جزءا , ويضمن بقدر الزيادة.

وإذا كان ضرر الدابة , لا من حيث الثقل والخفة وإنما بسبب اختلاف الجنس

وذلك كأن يستأجر رجل دابة ليحمل عليها قنطارا من قطن , فحمل عليها قنطارا من حديد أو أقل فتلفت الدابة , فيضمن قيمتها لأن ثقل القطن ينبسط على ظهر الدابة , وأما ثقل الحديد فيتجمع في موضع واحد , فيكون أنكى لظهر الدابة وأعقر لها , فلم يكن مأذونا فيه , فصار غاصبا , فيضمن ولا أجرة لما ذكر سابقا.

ويترتب عليه: أنه لو استأجر رجل دابة ليركبها بنفسه , فأركبها غيره ممن هو مثله في الثقل , أو أخف منه , ضمن قيمتها بالتلف لأن المحافظة هاهنا , لا من جهة الخفة والثقل , بل من حيث الخدمة والعلم , فالناس يختلفون فيها اختلافا واضحا.

ولو استأجر دابة ليركبها بنفسه , فأركب معه غيره , فعطبت , فهو ضامن لنصف قيمتها إذا كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان , لأن التلف حصل بركوبهما المشتمل على مأذون فيه وغير مأذون فيه , فإن كانت الدابة لا تطيق أن يركبها اثنان , فيضمن جميع قيمتها , لأنه أتلفها بإركاب غيره.

وإن كانت المخالفة في المكان:

وذلك كأن يستأجر دابة للركوب أو للحمل إلى مكان معلوم , فجاوز المكان , فيضمن كل القيمة.

وأما المخالفة في الزمان:

وذلك كان يستأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها مدة معلومة , فانتفع بها زيادة على المدة , فعطبت في يده , فيضمن القيمة أيضا , لأنه صار غاصبا بالانتفاع بها فيما وراء المدة المحدودة.

واستئجار السيارات كالدواب , مع مراعاة العرف والعادة وتقدير الخبراء , في جعل الضرر مظنونا أو غالبا أو متيقنا في حال زيادة الوزن , أو كون الحمل عاليا يعرض السيارة للانقلاب , أو لتجاوز مسافات كثيرة , أو متابعة السير عليها ليلا ونهارا , بحيث يحمى المحرك , فكل ذلك يكون سببا للضمان.

ب - استئجار الصناع:

وأما استئجار الصناع: كالحائك والخائط والصباغ ونحوهم.

ففي حالة المخالفة في الجنس:

وهو كأن يسلم إنسان ثوبا إلى صباغ ليصبغه لونا معينا , فصبغه بلون آخر: يكون صاحب الثوب بالخيار: إن شاء ضمن الصباغ قيمة الثوب , وإن شاء أخذ الثوب , وأعطى الصباغ ما زاد الصبغ فيه.

ومثله أن يسلم رجل قماشا , خياطا ليخيطه قميصا , فخاطه معطفا مثلا , يكون صاحب القماش بالخيار بين أن يضمن الخياط قيمة القماش , أو أن يأخذ المخيط , ويعطى أجر المثل.

وأما المخالفة في الصفة:

وهو كأن يسلم صباغا ثوبا ليصبغه بصبغ معين , فصبغه بصبغ آخر من جنس اللون المتفق عليه , فيكون صاحب الثوب أيضا مخيرا بين تضمين قيمة الثوب أو أخذه وإعطاء أجر المثل.

وكذلك الخلاف في القدر: مثل أن يسلم شخص غزلا إلى حائك ينسجه بغلظ معين , ثخين أو رفيع , فخالف بالزيادة أو بالنقصان , يكون صاحب الثوب حال الزيادة مخيرا بين تضمين مثل الغزل , أو أخذ استحقاق الأجرة وتملكها المسمى.

<<  <  ج: ص:  >  >>