للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاستصناع العادي:

يستطيع الاستصناع أن يلبي حاجات عظيمة وهامة للمجتمع الإنساني يصعب أو يتعذر كفايتها بغير طريق الاستصناع.

ففي نطاق الحاجات الشخصية ,: قد يحتاج الإنسان إلى لباس أو حذاء يناسبه لا يناسب غيره من الناس , لاختلاف مقاس جسمه أو مقاس رجله عن سائر الناس في مجتمعه. فلا يتمكن من الحصول على مطلوبه بعقد شراء إلا بعسر , وخاصة في المجتمعات الصغيرة التي لا تتوافر فيها السلع بكميات كبيرة ومقاسات متنوعة. وكذا لا يمكن تحصيل المطلوب بعقد إجارة لأن المواد الخام ربما كانت موجودة لدى الصانع نفسه ولا توجد عند غيره , كما هو معهود في عصرنا في صناعة الأحذية حيث لا تكون الجلود موجودة في العادة إلا عند الإسكاف.

كما قد يحتاج الإنسان أيضا إلى قطعة من الأثاث أو إلى سيارة أو منزل , يكون مختلفا عن المعهود - المصنوعات النمطية - لميزات يبتغيها تناسب ظروفه , أو تناسب ذوقة الخاص , فلا يجد شيئا يلبي تلك الحاجة يحصله بعقد شراء. وقد يحصله بعقد إجارة بأن يحصل من يصنعه بأجر , وهو يحضر المواد , لكن يجد أهون عليه أن يستصنعه بعقد استصناع يريحه فيه الصانع - وهو شخص أو شركة لديه الخبرة والقطع الفنية اللازمة - من عناء شراء المواد المطلوبة , وقد تكون كثيرة متنوعة , أو غير متوفرة.

وفي نطاق المصنوعات الضخمة , كالبواخر والطائرات العملاقة وربما القطارات والحافلات (الباصات) , ونطاق المصنوعات ذات التكلفة الباهظة , كالأقمار الصناعية , وشبكات الهاتف وأجهزتها الفنية , ومباني الإذاعة والتلفزيون وتجهيزاتها , لا يكون من اليسير اقتصاديا على الشركات التي تصنعها صناعة الشيء منها ثم عرضه للبيع وانتظار من يشترى , لأن المصنوع قد يكسد , فيتجمد رأس المال , وربما احتاج إلى تكلفة هائلة للتخزين والتأمين والصيانة , فبالاستصناع يكون الشيء من ذلك قد بيع مقدما فلا يكون الصانع عرضه لآثار تقلبات الأسعار التي قد تكون خطيرة , وقد تؤدي إلى إفلاس بعض المصانع أو إغلاقها , ويستطيع أن يقدم على إنتاج مصنوعاته وهو مطمئن إلى أنه لن يخسر بل سوف يحقق ربحا معلوما.

وفي نطاق الإنشاءات الضخمة على أراض يملكها المشترون , سواء كانوا من القطاع الخاص , أو كان المشتري هو الدولة , كبناء المباني الحكومية وتجهيز الطرق المعبدة والجسور والسكك الحديدية والمطارات والمستشفيات ونحوها , لا توجد صيغة لذلك أنسب من عقد الاستصناع , كما هو واضح من نشاطات قطاع المقاولات في عامة الشعوب المتحضرة.

وفي نطاق التجارة يستطيع التاجر أن يستصنع السلع التي يكثر رواجها بالمواصفات التي يرى أنها تجعل سلعة أكثر ملاءمة لأذواق المستهلكين ومتطلباتهم مما يزيد رواج تجارته. ويستطيع أيضا استصناع سلع جديدة - أي مخترعات جديدة , أو سلع موجودة لكي يقوم بإدخال تحسينات ذات بال عليها , ويطلب من المصانع التنفيذ , وهذا يؤدي إلى التقدم الصناعي للبلاد , بالإضافة إلى تمكين التجار ذوي الفطانة من تحصيل مكاسب جمة.

الاستصناع الموازي:

يستند عقد الاستصناع الموازي على أساس أنه لا يشترط في الاستصناع أن يكون العقد مع صانع. فيصح شرعا أن يتعاقد الراغب في الاستصناع مع شخص من غير أهل الصنعة , ثم يذهب هذا الملتزم للصنعة يبحث عن شخص يصنع له المطلوب فيأخذه ويسلمه للمستصنع.

ولم تتعرض كتب الحنفية لهذا الأمر , وإن كانت في تعريف الاستصناع تذكر أنه (التعاقد مع صانع. . إلخ) , وفي ذكر الأمثلة تذكر (التعامل مع صانع. .) , لكن ذلك لا ينبغي حمله على أن ذلك شرط لصحة العقد , خاصة وقد نصوا على أنه لو جاء بشيء من صنعة غيره كفى. وكذلك ذكر الفقهاء شروط الاستصناع وحصروها ولم ينصوا على اشتراط كون العقد مع الصانع.

كذلك لم تذكر كتب الفقه شيئا عن مسألة قيام الصانع باستصناع غيره. ولكن الفقهاء في باب الإجارة ذكروا أن الأجير إذا شرط عليه مستأجره أن يعمل بنفسه لزمه ذلك , لأن العامل يتعين بالشرط. فإن لم يشترط المستأجر ذلك فيجوز للأجير أن يستأجر من يعمل العمل. قالوا: لأن المستحق عمل في الذمة وهذا ما لم يكن العمل ملاحظا فيه خصوصية العامل , ومثال ذلك الاستئجار على نسخ الكتب الخطية. وكذا كل ما يختلف باختلاف العامل.

فكذلك يقال في الاستصناع إن للمستصنع أن يشترط في العقد عمل الصانع نفسه , أو عمل صانع معين , فإن قبل الطرف الآخر ذلك لزمه , ولم يكن له أن يستصنع غيره أما إن لم يشترط في عقد الاستصناع ذلك يكون للصانع أن يستصنع غيره من أهل الصنعة والقدرة الفنية وهذا ما لم تكن خصوصية الصانع ملاحظة في التعاقد , كما في بعض الصناعات التي تعتمد على القدرات الشخصية , وتختلف من صانع لآخر , ككتابة اللافتات الإعلانية بخط اليد , وصناعة التحف الفنية التي تميز بها الصانع المعين , والمطرزات اليدوية , ونحو ذلك.

وبمثل هذا أخذ القانون المدني الأردني في شأن المقاولة , ومنها الاستصناع. على أن ضمان العيوب للمستصنع والمسئولية تجاهه عن نقص الأوصاف المشروطة تبقى على الصانع في جميع الأحوال.

وهذا الرأي يتيح لأهل التجارات , وأرباب الأموال , وللمصارف الإسلامية , استعمال أسلوب التعاقد بالاستصناع الموازي بينهم وبين المحتاجين إلى المصنوعات من المستهلكين أو التجار.

والاستصناع الموازي معناه أن يعقد المصرف مثلا بخصوص السلعة الواحدة عقدين: أحدهما مع الراغب في السلعة يكون المصرف فيه في دور الصانع , والآخر مع القادر على الصناعة ليقوم بإنتاج سلعة مطابقة في المواصفات والتصاميم والشروط للمذكور في العقد الأول , ويكون البنك هنا في دور المستصنع.

ويمكن أن يكون الثمن في العقد الأول مؤجلا وفي العقد الثاني معجلا , فتكون فرصة التمويل للبنك مضاعفة , مما يتيح للمصرف قسطا من الربح وافرا.

ثم إذا تسلم المصرف السلعة من المنتج , ودخلت في حيازته , يقوم بتسلمها إلى المستصنع. ولا مانع من أن يعقد العقدان في نفس الوقت , أو يتقدم أي منهما.

محاذير تطبيق الاستصناع الموازي

يجب الحذر في الاستصناع المتوازي من أمور:

١- الربط بين العقدين بل يجب أن يكون كل من العقدين منفصلا عن الآخر وغير مبني عليه. فتكون مسئولية المصرف ثابتة قبل المستصنع. ولا شأن للمستصنع بالصانع في العقد الثاني. وإذا لم يقم الصانع بالعمل أو لم ينجزه في الموعد فعلى المصرف إنجازه.

٢- يجب أن لا يكلف المصرف المستصنع بالتعاقد مع الصانع أو متابعته , ولا يوكله بالإشراف على المصنوع , أو قبضه , أو نحو ذلك.

وهذان الأمران لئلا يتقلص دور المصرف في العملية الصناعية , ويتحول من مستصنع حقيقة إلى مقرض بالفائدة.

٣- يفضل أن لا ينتظر المصرف الإسلامي ليأتيه شخصان قد اتفقا بينهما أحدهما صانع والآخر مشتر يريد تمويلا ليدفع المصرف للصانع مقدما , ثم ينتظر الوفاء من الآخر بالزيادة. بل على المصرف أن يكون لديه (دائرة خاصة بالعمليات الاستصناعية) يأتي إليها الراغبون في إنشاء المباني , أو الصيانة العامة , أو تعبيد الطرق , أو مد سكك الحديد , أو بناء المطارات , أو صناعة السلع الاستهلاكية , أو غير ذلك. فيطلبوا منه هذه الأعمال استصناعا , ويكون للبنك علاقات مع من يستطيع تنفيذ مثل تلك الأعمال فيساومهم عليها , أو يعلن عن مناقصات لتنفيذها. فيعقد معهم عقود الاستصناع على مسئوليته الخاصة.

٤- لا يجوز أن يضرب لتسليم السلعة أجل بعيد بغرض إتاحة الفرصة له لينتفع بالتمويل المبكر , لكن يكون الأجل فقط بقدر المدة التي يحتاج إليها في التصنيع فعلا , فإن زادت عن ذلك كان العقد سلما ووجبت مراعاة شروطه وأحكامه.

<<  <  ج: ص:  >  >>