خيار العيب وخيار فوات الوصف المشروط في الاستصناع
ذهب الفقهاء إلى ثبوت خيار العيب وخيار الوصف للمستصنع. فإذا جاء الصانع بالشيء المطلوب مصنوعا , ولكن تبين أن فيه عيبا , أو أنه قد فقد فيه بعض الأوصاف المرغوبة للمستصنع التي شرطها في العقد , أو أن فيه مخالفة للأصول المتعارف عليها في صناعة مثل ذلك الشيء , ولم يكن الصانع اشترط البراءة من ذلك العيب أو المخالفة , يكون الصانع مسئولا , ولا يلزم المستصنع قبول ذلك الشيء المصنوع على حاله.
فإن لم يتمكن الصانع من إتمام النقص أو إصلاح العيب على وجه سليم , ومطابق للمواصفات المتفق عليها والأصول المتعارف عليها , فيكون للمستصنع المطالبة بمصنوع آخر بديل مستكمل للشروط والأوصاف المتفق عليها أو فسخ العقد. وإن تراضيا على تعويض عن النقص جاز.
خيار الرؤية
وإذا أحضر الصانع العين للمستصنع على الصفة المشروطة , ورآها. فقد اختلفت الرواية في اللزوم وعدمه بالنسبة لكل من الصانع والمستصنع إلى ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أنه إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع , وللمستصنع الخيار أي أنه يكون العقد لازما بالنسبة للأول دون الثاني. وذلك لأن الصانع بائع للمستصنع ما لم يره , فلا خيار له. وأما المستصنع فمشترى ما لم يره , فكان له خيار الرؤية , إذا رآه.
وإنما كان كذلك لأن العقد غير لازم , فالخيار كان ثابتا للصانع والمستصنع قبل الإحضار. والصانع بإحضاره المصنوع أسقط خيار نفسه فبقي خيار صاحبه (وهو المستصنع) على حاله , كالبيع الذي شرط فيه شرط الخيار للمتعاقدين , إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر , كذا هذا.
وهذا هو جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنه. وهو القول الراجح في المذهب وعند بعض الفقهاء المعاصرين. وعلى أساسه يسقط خيار الصانع بعد إحضار السلعة إلى المستصنع , ويثبت خيار الرؤية للمستصنع لأنه يشتري ما لم يره.
الرواية الثانية: روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن لكل واحد منهما الخيار. أي أن العقد لا يكون لازما حتى بعد إحضار المصنوع , ووجه هذه الرواية أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه ودفع الضرر واجب.
الرواية الثالثة: روى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا خيار لهما , أي أن العقد يكون لازما وذلك لأن الصانع قد أفسد متاعه , وقطع جلده , وجاء بالعمل على الصفة المشروطة فلو كان للمستصنع الامتناع عن أخذه لكان فيه إضرار بالصانع.
بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل , فقال المستصنع: لا أريد , لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة أو لا يقع , فلم يكن الامتناع منه إضرار بصاحبه فثبت الخيار.
وقد جاء في بحث العلامة الشيخ مصطفى الزرقا حول هذا الموضوع قوله:
(اليوم بعد أن أصبح نقل العملات النقدية وحساباتها من المشارق إلى المغارب يتم بفركة زر , وأصبحت الصفقات التجارية الضخمة تعقد على الملايين , وأصبح التاجر والمستصنع والصانع بالوسائل الآلية الهائلة يبني حساباته وحقوقه والتزاماته فيما لديه وما عليه وما إليه , على توقيت زمني دقيق بحيث لو اختلت معه حلقة من ذلك لجرت سلسلة من المشكلات في ارتباطاته المتداخلة والمتشابكة.
نقول: في ظروف كهذه اليوم يجب أن يطمئن كل متعامل ومتعاقد إلى أن ما تعاقد عليه قد ثبت ويستطيع أن يبني عليه. . . فهذا يقتضى أن يكون عقد الاستصناع لازما منذ انعقاده. إذ إن الاستصناع لم يبق محصورا في الحاجات البسيطة كالخف والحذاء. . . بل أصبح العدول من أحد الطرفين بعد التعاقد بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف , قد يترتب عليه أضرار عظيمة جسيمة للطرف الآخر , مما يزعزع مبدأ استقرار المعاملات الذي هو من أهداف الفقه الإسلامي) .
اشتراط البراءة من العيوب
أما في خصوص مسألة اشتراط البراءة من العيوب , فلم يتعرض الحنفية ولا غيرهم لهذه المسألة ضمن كلامهم في الاستصناع وتعرض لها فضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا ضمن بحثه في الاستصناع , فقال: (أرى أن اشتراط البائع في عقد الاستصناع عدم مسئوليته عن عيوب المبيع الذي سيصنعه أو اشتراطه تحديد هذه المسئولية , لا يصح مطلقا , بل يكون شرطا باطلا , ويبقى الصانع مسئولا مسئولية كاملة عن كل عيب يوجد في المصنوع. وإن كان هذا الاشتراط في البيع العادي معقولا , لأن هذا الشرط يحمي سوء النية من البائع الصانع , ويفسح له مجالا لعدم المبالاة بإتقان عمله والتزام الدقة التقانية (التكنولوجية) فيه , كما يقتضيه العقد. وهذا ينعكس ضررا بالغا على المشترى الذي بنى عقده على الثقة بالمتعاقد معه ولم يقبل بأداء الثمن الذي قد يكون باهظا جدا إلا على أساس تلك الثقة وافتراض حسن النيه وعدم الإهمال.
وهذا الاستثناء في عقد الاستصناع من جواز اشتراط عدم مسئولية البائع عن عيوب المبيع سببه أن المبيع في عقد الاستصناع معدوم حين العقد وسيصنعه البائع نفسه , فيكون قصده من هذا الشرط حماية نفسه من مسئولية الإهمال أو الخطأ أو الجهل بأصول صنعته التي يمارسها على أساس متقن لها) .
وعلى هذا الأساس لا يجوز في الاستصناع اشتراط البراءة من كل عيب يظهر في المصنوع , وإن أجاز ذلك الحنفية في البيع المطلق. والفرق بين الأمرين:
- أن البيع يكون واردا على شيء موجود قد يكون فيه عيوب لا يعلم بها البائع , فيرغب في التخلص من تبعتها لئلا تكون مثار نزاع بينه وبين المشتري.
- أما في الاستصناع فإن الصانع هو الذي يتولى العمل , ويتمكن من الحيلولة دون دخول العيوب في المصنوع سواء من جهة المواد أو من جهة الصنعة , فاشتراطه البراءة من جميع العيوب يتيح له الغش في المواد وفي العمل أو يتيح له تغطية جهله بأصول الصنعة , والتهرب من نتائج تصديه لما هو ليس من أهله.
أما اشتراط البراءة من اشتمال المصنوع على عيب معين يبينه للمستصنع , فهو يجوز عند بعض الفقهاء المعاصرين كما يجوز ذلك في البيع المطلق. ومثاله أن يكون في المواد المصنوع منها تلف أو ضعف , أو تكون مستعملة لا جديدة , أو يكون في الصنعة نقص من ناحية معينة , فإن حصل اشتراط ذلك برئ الصانع من المسئولية عن ذلك النقص.