ورد النهي عن بيع الغرر في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر. أخرجه مسلم.
ومعنى الغرر: المخاطرة والتردد بين أمرين أحدهما مقصود ومرغوب للعاقد , والآخر على عكسه , وقد يقع الشك في وجود الشيء أو في عاقبته كيف تكون , أو في المقدرة على تسليمه , أو مقداره أو أوصافه. . .
والغرر إما أن ينشأ عن صيغة العقد , أو عن طبيعة المعقود عليه. . .
ويكون الغرر مؤثرا في إفساد العقد إذا توافرت فيه أربعة شروط هي:
أ - أن يقع في عقد معاوضة , أي مبادلة تجارية , كالبيع والإجارة , فلا يصل إلى كل من الطرفين ما قصد المبادلة عليه بسبب الغرر.
أما الغرر في عقود التبرع فلا يؤثر.
ب - أن يكون الغرر كثيرا.
أما الغرر اليسير فلا يؤثر , لعدم خلو العقود عنه.
ج - أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة , فلو كان في توابعه لم يؤثر.
فبيع الحمل مع أمه جائز , أما بيعه وحده فلا يجوز , لأنه إذا لم يحصل بطل المعقود عليه.
د - أن لا يكون للناس حاجة ماسة إلى العقد المشتمل على غرر يسير.
كعقد السلم والإجارة.
الحكمة من النهى عن بيوع الغرر هي اختلال الرضا , بحيث يترتب على ذلك أكل المال بالباطل , وهذا مظنة العداوة والبغضاء: قال الإمام النووي النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا.
من بيوع الغرر ما جاءت بشأنه نصوص خاصة , ومنها ما دخل تحت عموم النهى في هذا الحديث.
بيع المنابذة والملامسة والحصاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة رواه البخاري.
وفي حديث آخر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة , وعن بيع الغرر.
رواه مسلم وأحمد والترمذي.
وبيع الملامسة: لمس المشتري أو البائع سلعة من سلع مختلفة فيتم البيع دون أن ينظر إليها أو يقلبها.
وبيع المنابذة: طرح البائع سلعة من سلع فيلزم بها المشتري دون أن يقلبها أو ينظر إليها.
وبيع الحصاة: هو البيع بإلقاء الحجر دون تحديد للمبيع , بأن يقول المشتري للبائع: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع , أو يقول البائع للمشترى: لك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها , أو يقول في شراء الأراضي: لك من الأرض إلى حيث تنتهى حصاتك.
هذه البيوع كانت معروفة في الجاهلية , وهي قائمة على الغرر , أي التردد بين حصول المقصود وعدم حصوله , والتراضي فيها غير متوافر لاستخدام وسائل لا تعبر عن إرادة العاقدين إذ يلزم البيع على ما تقع عليه الحصاة من الثياب مثلا بلا قصد من الرامي لشيء معين وبلا تأمل ولا روية.
وليس له أن يختار بعدئذ غيره.
كما أن فيها جهالة لعين المبيع وهي تؤدى إلى التنازع.
قال الفقيه ابن قدامة الحنبلي: كل هذه البيوع فاسدة , لما فيها من الغرر والجهل , ولا نعلم فيه خلافا.
والمنع من هذه البيوع هو في حالة وقوعها على اللزوم , أما لو كان للمشترى الخيار في انتقاء ثوب من أثواب متساوية القيمة , أو سلعة من سلع عديدة قيمة كل منها تماثل قيمة الأخرى , فلا يمنع هذا البيع مع هذا الحق الممنوح للمشترى من البائع , لأن الرضا يتحقق بما يقع عليه اختيار المشتري , ويسمى هذا: (البيع مع خيار التعيين) .
البيع قبل القبض عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه.
وقد تعددت الاجتهادات الفقهية في اختصاص النهي ببيع الأطعمة (الأقوات والأغذية) أو عمومه في كل مبيع كما هو قول ابن عباس عقب روايته للحديث: ولا أحسب كل شيء إلا مثله , أي مثل الطعام في الحكم وكما جاء في الحديث الذي رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إنى أشترى بيوعا , فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه.
والمراد بالبيع: الشيء المبيع.
الحكمة في النهي عن أن يبيع الإنسان ما اشتراه قبل أن يقبضه أن الشيء قبل قبض المشتري له لا يدخل في ضمانه , فإذا باعه قبل قبضه له نشأ الربح عن بيع شيء لم يضمنه , وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل سلف وبيع , ولا شرطان في بيع , ولا ربح ما لم يضمن , ولا بيع ما ليس عندك أخرجه الترمذي.
ولأن الملك قبل القبض ضعيف , لاحتمال انفساخ العقد بتلفه , فيكون بيعه قبل قبض المشتري له لونا من ألوان الغرر , لاحتمال عدم تمام الصفقة.
وهناك حكمة أخرى , بالنسبة للمنع من بيع الطعام قبل قبضه , وهي أن المنع يؤدى لتقليل تداول أيدى التجار للأغذية قبل وصولها للمنتفع بها , لكيلا ترتفع أثمانها دون أي إضافة ويتضرر المشترون لها لسد حاجتهم بها.
والقبض كما يكون بأخذ الشيء باليد , فإنه يحصل بوسائل أخرى حسب طبيعة الشيء: فالمنقولات تقبض بالحيازة بالكيل أو الوزن أو العدد , أو بتسلمها جزافا (جملة) .
والعقار يقبض بالتخلية بينه وبين المشتري ليتمكن من التصرف , وذلك بتسليم المفتاح بعد تفريغه مما يخص البائع.
والمبالغ النقدية يحصل قبضها بالأخذ , أو بالقيد في حسابات البنوك إذا كان يترتب على القيد إمكانية التصرف.
والبضائع المحفوظة في مخازن عمومية تقبض بتسليم شهادات التخزين أو المستندات التي تخول المشتري الحصول عليها. . .
بيع الذهب والفضة والعملات بالأجل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا الورق بالورق (الفضة بالفضة) إلا مثلا بمثل , ولا تشفوا (تزيدوا) بعضها على بعض , ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم على أن يكون يدا بيد.
بيع الذهب والفضة والعملات بعضها ببعض يسمى (الصرف) أو (المصارفة) وهو جائز شرعا سواء كان للحاجة إلى النوع الذي ليس عند المشتري , أو للتجارة وتحصيل الربح , مع مراعاة الشروط الشرعية للصرف وهي:
أ - إذا بيع الجنس بجنسه وجب التماثل , كما يجب أيضا التقابض.
ب - إذا بيع الذهب بالفضة , أو بيع الذهب أو الفضة بإحدى العملات , أو بيعت عملة بأخرى الريال بالجنيه مثلا , فإنه يجوز التفاوت في المقدار أي كمية البدلين , ولكن يجب التقابض بين المتصارفين في المجلس قبل أن يفترقا.
واتفق الفقهاء على تحريم بيع الذهب أو الفضة أو العملات بالنسيئة (الأجل) , فلا يجوز إبرام العقد على شيء من ذلك مع تأخير تسليم البدلين أو احدهما , بل يجب أن يقترن العقد بالتقابض يدا بيد.
وكذلك لا يجوز المواعدة على الصرف إذا كانت تحمل معنى الإلزام.
وكما لا يجوز الأجل في عقد الصرف (بيع العملات) لا يجوز وجود خيار الشرط (أي حق الفسخ خلال مدة) لأنه يترتب عليه تأخير لزوم العقد , وتأجيل التقابض للبدلين.
والحكمة في تحريم بيع الذهب أو الفضة أو العملات بالأجل , أو مع تأخير التقابض هي أن التأخير يعتبر ذريعة إلى ربا النسيئة.
والأثمان سواء بالخلقة (الذهب والفضة) أم ما أخذ حكمها (العملات النقدية) هي وسيلة للتبادل , فيجب وقوع التبادل الفوري. . ويراعى في ذلك ما جرى العرف على اعتباره قبضا , كالقيود المصرفية , مع التسامح في التأخير الذي يحصل بسبب عمليات التحويلات المصرفية , وقد اعتمدت ذلك مقررات المجامع الفقهية.
بيع الكالئ بالكالئ روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (وقال: هو:) النسيئة بالنسيئة أخرجه البيهقي والكالئ هو الدين , وسمي بذلك لأنه متأخر , لتأجيل تسليمه عند العقد.
وبيع الكالئ بالكالئ هو بيع الدين بالدين , ويطلق عليه أيضا: بيع النسيئة.
ومعنى النسيئة التأخير أيضا.
مثاله: أن يشتري شخص سيارة , وتجرى المبادلة بين الثمن الذي يثبت في ذمته وبين دين للمشتري ثابت في ذمة شخص آخر غير البائع فيكون قد باع دينا عليه بدين له , فقد يتمكن البائع من قبضه وقد لا يتمكن.
الحكمة في المنع من بيع الدين بالدين هي وجود الغرر , لأن الدائن لا يقدر على تسليم المعقود عليه لأنه في الذمة.
والغرر هنا كثير لأن البدلين (المبيع والثمن) دينان في الذمة.
ولذلك اشترط في بيع السلم تعجيل الثمن ليبقى المؤجل هو المبيع فقط.
ومن بيع الكالئ بالكالئ بيوع المستقبليات التي تسمى عقود الفيوتشر لأن تسليم البدلين فيها مؤجل إذ لا يعجل الثمن كالسلم بل يدفع جزء يسير منه. .
واستثنى فقهاء الحنفية من بيع الدين لغير من عليه الدين - الممنوع شرعا - ثلاث حالات جائزة وهي:
أ - إذا سلط الدائن دائنه على قبض الدين على شخص ثالث واستيفاء حقه عليه , فيكون وكيلا قابضا للموكل , ثم لنفسه.
ب - الحوالة , بأن ينقل دينه من ذمة شخص إلى ذمة شخص آخر.
ج - الوصية , بأن يوصي لشخص بتملك ديونه لدى الغير بعد الموت.
أما بيع الدين إلى المدين نفسه فقد أجازه الحنفية , لأن المانع هو العجز عن التسليم , وهو في هذه الحالة غير محتاج إليه لأن المبيع في ذمة المشتري أصلا.
بيع الثمار قبل صلاحها عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها , نهى البائع والمبتاع.
وفي رواية لأنس رضي الله عنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها , وعن بيع النخل حتى يزهو.
قيل: ما (يزهو) ؟
قال: يحمار أو يصفار.
وكان ابن عمر إذا سئل عن صلاح الثمار يقول: تذهب عاهتها.
أي الآفات الزراعية التي تتلفها لضعفها.
وجاء في رواية أخرى لأنس نهى عن بيع العنب حتى يسود , وعن بيع الحب حتى يشتد. أخرجه البخاري ومسلم وقد بينت إحدى الروايات الحكمة من منع هذا البيع , بقوله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه وفي رواية: بم يستحل مال صاحبه.
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث.
وللفقهاء تفسيرات واجتهادات من شأنها توضيح العمل بهذه الأحاديث , حيث فسروا (بدو الصلاح) بأنه الأمن من العاهات وفساد الثمار. أو ظهور مبادئ النضج والحلاوة فيما لا يتلون عادة , واما ما يتلون فهو بأن تأخذ الثمرة في الحمرة والسواد والصفرة.
ومن الواضح أن (بدو صلاح الثمار) هي مرحلة لاحقة لظهور الثمار فلا يكفى أن ينعقد الثمر حتى يشتد ويظهر صلاحه.
لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها حتى لو شرط ترك الثمار على الشجر حتى تنضج لأنه شرط يؤدى إلى شغل ملك الغير , ولوجود الغرر , لاحتمال صلاح الثمار وعدم صلاحها إلا بعد زمن طويل.
وهناك صور مستثناة من هذه البيوع الممنوعة , منها:
- لو باع الثمر قبل بدو صلاحه , بشرط قطعه في الحال , يجوز لأنه بذلك تتم الصفقة وينتفي الغرر , وربما تقتصر حاجة المشتري على هذه المرحلة , لأن المنع كان لخوف تلف الثمار قبل اخذ المشتري لها وهذا مأمون فيما يقطع في الحال.
- إذا بدا صلاح الثمار , لكن لم يكتمل نضجها , وشرط المشتري على البائع تركها على الشجر حتى ينتهي عظمها فهذا جائز , لأن شرط بدو الصلاح قد تحقق , والترك في هذه الحالة يحصل لفترة قصيرة فلا يتضرر البائع.