للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في هذا الموضوع اتجاهان:

اتجاه الجمهور بعدم الجواز إلا بإذن الراهن واتجاه الحنابلة بالانتفاع بالمركوب والمحلوب فقط دون غيرهما مقابل النفقة.

وسبب الخلاف ما رواه البخاري وأبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا , ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا , وعلى الذي يركب ويشرب النفقة.

وأيضا ما رواه الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه , له غنمه وعليه غرمه.

أما اتجاه الجمهور غير الحنابلة: فهو أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن وحملوا ما ورد من جواز الانتفاع بالمحلوب والمركوب بمقدار العلف على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على الرهن , فأنفق عليه المرتهن , فله الانتفاع بمقدار علفه.

وأما الحنابلة فأجازوا الانتفاع بالرهن إذا كان حيوانا , فله أن يحلبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه.

وهذا تفصيل آراء المذاهب:

يرى الحنفية: أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون استخداما ولا ركوبا ولا سكنى ولا لبسا ولا قراءة في كتاب إلا بإذن الراهن , لأن له حق الحبس دون الانتفاع فإن انتفع به , فهلك في حال الاستعمال , يضمن كل قيمته , لأنه صار غاصبا.

وإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بالمرهون , جاز مطلقا عند بعض الحنفية.

ومنهم من منع مطلقا , لأنه ربا أو فيه شبه ربا والإذن أو الرضا لا يحل ولا يبيح شبهته.

ومنهم من فصل , فقال: إن شرط الانتفاع على الراهن في العقد فهو حرام لأنه ربا وإن لم يشرط في العقد فجائز لأنه تبرع من الراهن للمرتهن والاشتراط كما يكون صريحا , يكون متعارفا , والمعروف كالمشروط.

وقد صرح ابن نجيم في الأشباه أنه يكره تحريما للمرتهن الانتفاع بالرهن.

وقال في التتارخانية: (ولو استقرض دراهم , وسلم حماره إلى المقرض ليستعمله إلى شهرين حتى يوفيه دينه , أو داره ليسكنها , فهو بمنزلة الإجارة الفاسدة , إن استعمله , فعليه أجر مثله , ولا يكون رهنا)

وقال ابن عابدين في رد المحتار (٥ / ٢٤٢) : والغالب من أحوال الناس أنهم يريدون عند الدفع الانتفاع , ولولاه لما أعطاه الدراهم , وهذا بمنزلة الشرط , لأن المعروف كالمشروط , وهو مما يعين المنع.

وفصل المالكية القول , فقالوا: إذا أذن الراهن للمرتهن بالانتفاع أو اشترط المرتهن المنفعة جاز إن كان الدين من بيع أو شبهة من المعاوضات , وعينت المدة بأن كانت معلومة , للخروج من الجهالة المفسدة للإجارة , لأنه بيع وإجارة , وهو جائز.

والجواز كما قال الدردير بأن يأخذ المرتهن المنفعة لنفسه مجانا , أو لتحسب من الدين على أن يعجل باقي الدين.

ولا يجوز إن كان الدين قرضا (سلفا) لأنه قرض جر نفعا.

ولا يجوز الانتفاع في حالة القرض , إن تبرع الراهن للمرتهن بالمنفعة , أي لم يشترطها المرتهن , لأنها هدية مديان , وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

وللشافعية كلام متفق مع المالكية في الجملة , فإنهم قالوا: ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة , لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه , له غنمه وعليه غرمه.

قال الشافعي (غنمه: زياداته , وغرمه: هلاكه ونقصه.)

ولا شك أن من الغنم سائر وجوه الانتفاع , وهذا رأي ابن مسعود رضي الله عنه.

فإن شرط المرتهن في عقد القرض ما يضر الراهن , كأن تكون زوائد المرهون أو منفعته له أي للمرتهن , بطل الشرط والرهن في الأظهر , للحديث الثابت كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.

وأما بطلان الرهن فلمخالفة الشرط مقتضى العقد , كالشرط الذي يضر المرتهن نفسه.

أما إن كانت المنفعة مقدرة أو معلومة , وكان الرهن مشروطا في بيع , فإنه يصح اشتراط جعل المنفعة للمرتهن , لأنه جمع بين بيع وإجارة في صفقة وهو جائز.

مثل أن يقول شخص لغيره: بعتك حصاني بمئة , بشرط أن ترهنني بها دارك , وأن تكو ن منفعتها لي سنة , فبعض الحصان مبيع , وبعضه أجرة في مقابل منفعة الدار.

وانفرد الحنابلة في تجويز الانتفاع بالمرهون أحيانا فقالوا:

إذا كان المرهون غير حيوان:

وهو ما لا يحتاج إلى مؤنة (قوت) كالدار والمتاع ونحوه: لا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لأن الرهن ومنافعه ونماءه ملك الراهن فليس لغيره أخذها بغير إذنه , فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض , وكان دين الرهن من قرض لم يجز , لأنه قرض جر منفعة وذلك حرام , فهم في هذا كالمالكية والشافعية.

قال الإمام أحمد أكره قرض الدور , وهو الربا المحض , يعني إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن.

وان كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض , فأذن له الراهن في الانتفاع جاز , أي لو مع المحاباة في الأجرة لأنه بيع وإجارة كما قال الشافعية.

وإن كان الانتفاع بعوض , هو أجر المثل من غير محاباة , جاز في القرض وغيره لكونه لم ينتفع بالقرض , بل الإجارة , وإن حاباه لا يجوز في القرض , ويجوز في غيره.

والحاصل: أن الانتفاع إن كان بعوض , جاز في القرض وغيره إن كان بأجر المثل , وإن كان بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره.

وإذا انتفع المرتهن من غير إذن الراهن , حسب من دينه.

وإن شرط في الرهن أن ينتفع به , فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى الرهن.

وإن كان المرهون حيوان

فيجوز للمرتهن عند الحنابلة أن ينتفع به إن كان مركوبا أو محلوبا , على أن يركب ويحلب بقدر نفقته , متحريا العدل في النفقة , وإن لم يأذنه الراهن , ودليلهم الحديث المتقدم: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا , ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا , وعلى الذي يركب ويشرب النفقة.

والجملة الأولى جملة خبرية في معنى الإنشاء , مثل {والوالدات يرضعن أولادهن} ولأن التصرف معاوضة , والمعاوضة تقتضي المساواة بين البدلين.

لكن قال ابن القيم في أعلام الموقعين: لا ضرورة إلى المساواة بين البدلين , لأن الشارع ساوى بينهما ويعسر علينا أمر الموازنة بين الركوب واللبن وبين النفقة.

ولم يعمل الجمهور بهذا الحديث , وقالوا: إنه حديث ترده أصول وآثار صحيحة , ويدل على نسخه حديث لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه وأيضا حديث: لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه , له غنمه وعليه غرمه.

وأجاب الحنابلة: بأن السنة أصل من الأصول , فكيف تردها الأصول؟ وأما الحديث الناسخ فهو عام , وحديث الرهن خاص , فيكون الخاص مقيدا له.

<<  <  ج: ص:  >  >>