بعد ما ثبتت مشروعية السلم بالكتاب والسنة والإجماع اختلف الفقهاء في كون تلك المشروعية جارية على وفق القياس ومقتضى القواعد العامة في الشريعة , أم أنها جاءت استثناء على خلاف ذلك لحاجة الناس إلى هذه المعاقدة , وذلك على قولين:
القول الأول السلم عقد جائز على خلاف القياس
يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أن السلم عقد جائز على خلاف القياس لأنه مستثنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك. فإن السلم بيع ما ليس عند الإنسان , إذ المسلم فيه (وهو المبيع) معدوم عند العقد.
والدليل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. فهذا يدل على تخصيص السلم من عموم النهي بالترخيص فيه.
وعلى ذلك قال ابن نجيم هو على خلاف القياس , إذ هو بيع المعدوم , ووجب المصير إليه بالنص والإجماع للحاجة وقال الشيخ زكريا الأنصاري (السلم عقد غرر جوز للحاجة.) . وفي منح الجليل: (صرح في المدونة بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه) .
وقد بين العلامة ابن خطيب الدهشة الشافعي أن عقد السلم وإن كانت مشروعيته في الأصل على خلاف الدليل للحاجة إلى بيع المعدوم , فقد صار مستقلا , فجوز مطلقا عند الحاجة وعدمها , وفي المعدوم والموجود والحال.
القول الثاني: السلم عقد جائز على وفق القياس ذهب ابن حزم وتقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو أن السلم عقد مشروع على وفق القياس , وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية.
قال ابن تيمية وأما قولهم (السلم على خلاف القياس) فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تبع ما ليس عندك وأرخص في السلم. وهذا لم يرو في الحديث , وإنما هو من كلام بعض الفقهاء , وذلك أنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده , فيكون مخالفا للقياس.
ونهي النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده:
- إما أن يراد به بيع عين معينة , فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه , وفيه نظر.
- وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه , وإن كان في الذمة , وهذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئا لا يدرى هل يحصل أو لا يحصل؟
وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه , والمناسبة فيه ظاهرة.
فأما السلم المؤجل , فإنه دين من الديون , وهو كالابتياع بثمن مؤجل. فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة , وكون العروض الآخر مؤجلا في الذمة , وقد قال تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله , وقرأ هذه الآية.
فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه.
وقال ابن القيم والصواب أنه على وفق القياس فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا , وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة , وقد تقدم أنه على وفق القياس.
وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا؟ والبائع والمشتري منها على غرر , من أفسد القياس صورة ومعنى , وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمة فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى , الربا والبيع.
ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من نظر وجيه وتأويل حسن.