اتفق جمهور الفقهاء على جواز عقد الإجارة ولم يخالف في جوازها إلا طائفة من المتأخرين كأبي بكر الأصم وإسماعيل ابن علية والحسن البصري والقاشاني والنهرواني وابن كيسان فإنهم لم يجيزوه , لأن الإجارة عندهم:
تتضمن بيع منفعة معدومة , إذ المنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض , فتكون الإجارة باطلة قياسا على البيع لأن بيع المعدوم باطل باتفاق الفقهاء.
- وتتضمن الغرر , إذ أنها تعقد على منافع لم تخلق بل هي توجد شيئا فشيئا , فكان العقد عليها باطلا لأن الغرر منهي عنه.
وناقش الجمهور أدلة المانعين فقالوا إن الغرر ما تردد بين أمرين على السواء.
أما الإجارة فالأغلب فيها حال السلامة , ولو فرض أن في الإجارة غررا فإنه قليل ويغتفر بالأدلة الواردة لحاجة الناس إليه وضرورته , وكونه قليلا.
كما ذكروا أن قياسهم الإجارة على البيع في بطلانه على ما لم يخلق قياس مع الفارق وذلك أن بيع المعدوم لا يصح لأن العقد لم يقع على شيء يتناوله البيع بخلاف الإجارة , فإن المنافع وإن كانت معدومة فالعين موجودة معلومة وقع عقد الإجارة على تلك العين المعلومة المعينة لاستيفاء منافعها ففرقا بين عين معينة معلومة منافعها وبين العقد على معدوم لا وجود له.
وأدلة الجمهور على مشروعية الإجارة: القرآن والسنة , والإجماع والمعقول.
الدليل من القرآن الكريم
قول الله تعالى على لسان إحدى ابنتي شعيب عليه السلام
{قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} (القصص: ٢٦ , ٢٧)
ووجه الاستدلال بالآية الكريمة هو أن الله سبحانه وتعالى قص علينا خبر تأجير موسى عليه السلام نفسه لرعي الغنم بأجرة معلومة , وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ , فدل ذلك على جواز الإجارة.
وقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} (الطلاق: ٦)
وفي هذه الآية أمر بإيتاء الأجر إذا أرضعت المرأة الطفل.
وهذا دليل على مشروعية الإجارة.
الدليل من السنة الشريفة
قوله صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه وهذا حديث رواه أبو يعلى في مسنده من حديث أبي هريرة وروى عن آخرين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من استأجر أجيرا فليعلمه أجره.
وهذان الحديثان يدلان على جواز الإجارة , لأن فيهما الأمر بإعطاء الأجير أجرته وإعلامه بمقدارها.
ومنها ما رواه سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع , فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق أي فضة وروى ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم , وأعطى الحجام أجره.
الدليل من الإجماع
فقد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين على جواز الإجارة قبل وجود الأصم ومن وافقه من الفقهاء المتأخرين , الذين لا يعتبر اجتهادهم صحيحا لأنه يخالف النصوص الصريحة من القرآن والسنة.
يقول الإمام الكاساني وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير فلا يعبأ بخلافه , إذ هو خلاف الإجماع , وبه تبين أن القياس متروك لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد وحاجتهم إلى الإجارة ماسة.
الدليل من المعقول
وأما دليل مشروعية الإجارة من المعقول فالناس بحاجة إليها كحاجتهم إلى الأعيان , لتوفير السكنى في الدور , والاتجار في المحلات التجارية والركوب للمسافر وغيره على الدواب والسيارات والسفن والقطارات والطائرات , وعمل أصحاب الصنائع بأجر , ولا يمكن كل أحد عمل ذلك , ولا يجد متطوعا به , فلا بد من الإجارة لذلك , بل ذلك مما جعله الله طريقا للرزق , حتى إن أكثر المكاسب بالصنائع كما قال ابن قدامة في المغني.