انعقاد السلم بلفظ البيع
لما كان السلم عقدا يتم بين طرفين , فإن وجوده يتوقف على صيغة تفصح عن رغبة المتعاقدين على إنشائه , وتعبر بجلاء عن اتفاقهما على تكوينه , لأن النية - أو الرغبة - أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه , فلا بد من تعبير يدل عليه ويكشف عنه , وهو الإيجاب والقبول المتصلان المتوافقان.
وقد اتفق الفقهاء على صحة إيقاع الإيجاب بلفظ السلم أو السلف , وكل ما اشتق منهما , كأسلمتك وأسلفتك , وأعطيتك كذا سلما أو سلفا في كذا. . . لأنهما لفظان بمعنى واحد , وكلاهما اسم لهذا العقد. وكذا على صحة القبول بكل لفظ يدل على الرضا بما أوجبه الأول , مثل: قبلت ورضيت ونحو ذلك.
غير أن الفقهاء اختلفوا في صحة انعقاد السلم بلفظ البيع على قولين:
(أحدهما) لأبي حنيفة وصاحبيه والمالكية والحنابلة والشافعية في وجه: وهو أنه ينعقد السلم بلفظ البيع إذا بين فيه إرادة السلم وتحققت شروطه , كأن يقول رب السلم: اشتريت منك خمسين رطلا زيتا صفته كذا إلى أجل كذا بعشر دنانير حالة , وقبل المسلم إليه. ونحو ذلك. وحجتهم النظر إلى المعنى والتعويل على القصد , مع كون اللفظ لا يعارضه , إذ كل سلم بيع , كما أن كل صرف بيع , فإطلاق البيع على السلم أطلاق للفظ على ما يتناوله.
(والثاني) لزفر من الحنفية والشافعية في وجه صححه الشيخان النووي والرافعي وهو أن السلم لا ينعقد بلفظ البيع. وحجة زفر (أن القياس أن لا ينعقد أصلا , لأنه بيع ما ليس عند الإنسان , وأنه منهي عنه , إلا أن الشرع ورد بجوازه بلفظ السلم بقوله: ورخص في السلم) . فوجب الاقتصار عليه , لعدم إجزاء ما سواه. أما حجة أصحاب هذا الرأي من الشافعية فهو التعويل على اللفظ واعتباره , وعلى ذلك ينعقد بيعا نظرا للفظ , ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس , لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه.
وقد انتصر الإمام تقي الدين ابن تيمية لمذهب المعولين على القصد والمعنى دون اللفظ بحجة بليغة وبرهان ساطع فقال: (والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت , فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد. وهذا عام في جميع العقود فإن الشارع لم يحد ألفاظ العقود حدا , بل ذكرها مطلقة. فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسن الأعجمية , فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية. ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه , وكذلك البيع وغيره.
يشترط في الصيغة أن تكون منجزة
بعد هذا تجدر الإشارة إلى اتفاق الفقهاء على أن صيغة السلم يجب أن تكون منجزة يترتب عليها أثرها في الحال.
فلا يقبل التعليق على شرط , كأن يقول: إذا جاء وكيلي فقد أسلمتك مائة جنيه في أردب قمح.
ولا تقبل الإضافة إلى زمن مستقبل , كأن يقول: أسلمتك أو أسلمك مائة جنيه بعد شهر في أردب قمح.
ذلك أن من شروط صحة السلم قبض رأس ماله في مجلس العقد عند جمهور الفقهاء (خلافا للمالكية الذين أجازوا تأخيره ثلاثة أيام) , والتعليق والإضافة كلاهما ينافيان هذا الشرط.
يشترط في الصيغة أن تكون باتة لا خيار فيها
اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة أن تكون صيغة السلم باتة لا خيار فيها لأي من العاقدين , وذلك لأنه عقد لا يقبل خيار الشرط , إذ يشترط لصحته تمليك رأس المال وإقباضه للمسلم إليه قبل التفرق , ووجوب تحققهما مناف لخيار الشرط.
وخالفهم في ذلك المالكية , وقالوا بجواز خيار الشرط في السلم للعاقدين أو لأحدهما أو لأجنبي ثلاثة أيام فما دون ذلك , بشرط أن لا يتم نقد رأس المال في زمن الخيار , فإن نقد فسد العقد مع شرط الخيار , لتردد رأس المال بين السلفية والثمنية.
وهذا هو الرأي المعتمد في مذهبهم , وهو مبني على جواز تأخير قبض رأس مال السلم ثلاثة أيام فما دونها , لأن هذا التأخير اليسير في حكم التعجيل , فيكون معفوا عنه ومتسامحا فيه , إذ القاعدة الفقهية تنص على (أن ما قارب الشيء يعطى حكمه) .