للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعجيل رأس المال

ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أن من شروط صحة السلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد , فلو تفرقا قبله بطل العقد.

واستدلوا على ذلك:

(أولا) بقوله صلى الله عليه وسلم: من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم إذ التسليف في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإعطاء , فيكون معنى كلامه عليه الصلاة والسلام (فليعط) . لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه , فإن لم يدفع إليه رأس المال فإنه يكون غير مسلف شيئا , بل واعدا بأن يسلف. قال الرملي (ولأن السلم مشتق من استلام رأس المال , أي تعجيله , وأسماء العقود المشتقة من المعاني لا بد من تحقق تلك المعاني فيها) .

(ثانيا) بأن الافتراق قبل قبض رأس المال يكون افتراقا عن كالئ بكالئ , أي نسيئة بنسيئة , وهو منهي عنه بالإجماع.

(ثالثا) بأن في السلم غررا احتمل للحاجة , فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر , وهو الثمن , كي لا يعظم الغرر في الطرفين.

(رابعا) بأن الغاية الشرعية المقصودة من إبرام العقود ترتب آثارها عليها بمجرد انعقادها , فإذا تأخر البدلان كان العقد عديم الفائدة للطرفين خلافا لحكمه الأصلي ومقتضاه وغايته. ومن هنا قال ابن تيمية عن تأخير رأس المال في السلم (فإن ذلك منع منه لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر , والمقصود من العقود القبض , فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلا , بل هو التزام بلا فائدة) .

(خامسا) وبأن مطلوب الشارع صلاح ذات البين وحسم مادة الفساد والفتن , وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذمتين , توجهت المطالبة من الجهتين , فكان ذلك سببا لكثرة الخصومات والعداوات , فمنع الشرع ما يفضي إلى ذلك باشتراط تعجيل قبض رأس المال.

ولا يخفى أن اشتراط قبض رأس مال السلم قبل التفرق عند جمهور الفقهاء إنما هو شرط لبقاء العقد على الصحة , وليس شرط صحة , لأن السلم ينعقد صحيحا بدون قبض رأس المال , ثم يفسد بالافتراق قبل القبض. وبقاء العقد صحيحا يعقب العقد ولا يتقدمه , فيصلح القبض شرطا له.

وقد جاء في المجلة العدلية م (٣٨٧) : (يشترط لبقاء صحة السلم تسليم الثمن في مجلس العقد , فإذا تفرق العاقدان قبل تسليم رأس مال السلم انفسخ العقد) .

هذا وقد خالف المالكية - في المشهور عندهم - جمهور الفقهاء في اشتراط تعجيل رأس مال السلم في مجلس العقد , وقالوا: يجوز تأخيره اليومين والثلاثة بشرط وبغير شرط تعويلا على القاعدة الفقهية (ما قارب الشيء يعطى حكمه) , حيث إنهم اعتبروا هذا التأخير اليسير معفوا عنه , لأنه في حكم التعجيل.

ومن هنا قال القاضي عبد الوهاب البغدادي في كتابه (الإشراف) في تعليل جواز ذلك التأخير اليسير: (فأشبه التأخير للتشاغل بالقبض) .

وقال ابن رشد (وأما تأخيره فوق الثلاث بشرط , فذلك لا يجوز باتفاق , سواء كان رأس المال عينا أو عرضا. فإن تأخر فوق الثلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عرضا , واختلف فيه إن كان عينا: فعلى ما في) المدونة (من السلم: يفسد بذلك ويفسخ. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب: أنه لا يفسخ إلا أن يتأخر فوق الثلاث بشرط) .

على أن المالكية أنفسهم يصرحون بأن العزيمة في السلم إنما تتحقق بتعجيل رأس المال في مجلس العقد. يقول ابن عبد السلام لم أعلم خلافا في كون تعجيل رأس المال عزيمة , وأن الأصل التعجيل , وإنما الخلاف: هل يرخص في تأخيره؟ .

تعجيل رب السلم بعض رأس المال وتأجيل البعض الآخر

هناك مسألة مهمة , وهي ما لو عجل رب السلم بعض رأس المال في المجلس , وأجل البعض الآخر , فما هو الحكم في هذه الحالة؟

اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

(أحدهما) للحنفية والشافعية والحنابلة:

وهو أنه يبطل السلم فيما لم يقبض ويسقط بحصته من المسلم فيه , ويصح في الباقي بقسطه. قال ابن نجيم (وصح في حصة النقد لوجود قبض رأس المال بقدره , ولا يشيع الفساد , لأنه طارئ , إذ السلم وقع صحيحا في الكل , ولذا لو نقد الكل قبل الافتراق صح) .

(والثاني للمالكية) :

وهو أنه يفسد في الجميع وعلل المالكية قولهم بأنه (متى قبض البعض وأخر البعض فسد , لأنه دين بدين) .

واستدل الظاهرية على ذلك أيضا بأن السلم عقد واحد وصفقة واحدة , وكل عقد جمع فاسدا وجائزا , كان كله فاسدا , لأن العقد الواحد لا يتبعض , والتراضي منهما لم يقع حين العقد إلا على الجميع , لا على البعض دون البعض , فلا يحل إلزامهما بما لم يتراضيا جميعا عليه , لأنه أكل مال بالباطل لا عن تراض.

ومستند ابن أبي ليلى أن الأصل عنده في أبواب المعاملات أن العقد إذا ورد الفسخ على بعضه انفسخ كله.

جعل الدين رأس مال السلم

لو أراد رب السلم أن يجعل الدين في ذمة المسلم إليه رأس مال السلم , فإن ذلك غير جائز عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ومالك والأوزاعي والثوري وغيرهم , وذلك لأن المسلم فيه دين , فإذا جعل الثمن دينا , كان بيع دين بدين وهو غير جائز بالإجماع.

وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وذلك لعدم تحقق المنهي عنه - وهو بيع الكالئ بالكالئ , أي الدين المؤخر بالدين المؤخر - في هذه المسألة إذا كان الدين المجعول رأس مال السلم غير مؤجل في ذمة المدين , لأنها تكون من قبيل بيع الدين المؤخر بالدين المعجل , ولوجود القبض الحكمي لرأس مال السلم من قبل المسلم إليه في مجلس العقد , لكونه حالا في ذمته , فكأن المسلم - إذ جعل ماله في ذمته معجلا رأس مال السلم - قبضه منه ورده إليه , فصار دينا معجلا مقبوضا حكما , فارتفع المانع الشرعي , ولأن دعوى الإجماع على هذا المنع غير مسلمة.

أما إذا كان الدين المعجل رأس مال السلم مؤجلا في ذمة المدين , فلا خلاف لأحد من الفقهاء في منع ذلك شرعا , وأنه من بيع الكالئ بالكالئ المحظور , لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة.

جاء في إعلام الموقعين لابن القيم (وأما بيع الواجب بالساقط , فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته , فقد وجب له عليه دين , وسقط له عنه دين غيره. وقد حكي الإجماع على امتناع هذا , ولا إجماع فيه. قاله شيخنا , واختار جوازه , وهو الصواب. إذ لا محذور فيه , وليس بيع كالئ بكالئ , فيتناوله النهي بلفظه , ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى , فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة) .

جعل المال المقبوض على سبيل الأمانة رأس مال السلم

إذا جعل رب السلم ماله الموجود في يد المسلم إليه رأس مال السلم , فهل يصح ذلك , وينوب القبض السابق للعقد مناب القبض المستحق في مجلسه , أم لا يصح ذلك , ويحتاج إلى قبض جديد؟ .

للفقهاء في المسألة قولان:

(أحدهما) للحنابلة: وهو أن قبض المسلم إليه السابق للعين المجعولة رأس مال السلم ينوب عن القبض المستحق بالعقد , ويقوم مقامه , سواء أكانت العين في يده أمانة أم مضمونة , ولا يحتاج إلى تجديد القبض.

(والثاني) للحنفية: وهو أنه ينوب القبض السابق لرأس مال السلم عن القبض المستحق في مجلس العقد إذا كانت يد المسلم إليه عليه يد ضمان لا يد أمانة. أما إذا كان في يده أمانة - كيد الوكيل والوديع والشريك ونحوهم - فإن القبض السابق لا يقوم مقامه , ويحتاج إلى تجديد القبض في المجلس ليصح عقد السلم.

وقد أوضح الكاساني قاعدة الحنفية في نيابة القبض السابق مناب المستحق اللاحق بعبارة وجيزة جامعة حيث قال: (فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه. وإن لم يكن مثله: فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه. وإن كان دونه لا ينوب. لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب , لأن المتماثلين غير أن ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده , وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة , وإن كان دونه لا يوجد فيه إلا بعض المستحق , فلا ينوب عن كله.

<<  <  ج: ص:  >  >>