عدم استقرار دين السلم للمشتري
لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد السلم إذا أبرم بين عاقدين مستجمعا أركانه وشروط صحته فإنه يقتضي انتقال ملكية رأس المال إلى المسلم إليه وانتقال ملكية المسلم فيه إلى رب السلم.
وعلى ذلك , فإذا قبض المسلم إليه رأس المال كان له أن يتصرف فيه بكل التصرفات السائغة شرعا , لأنه ملكه وتحت يده.
أما المسلم فيه , فمع صيرورته ملكا للمسلم بمقتضى العقد , إلا أن ملكيته له غير مستقرة. قال السيوطي (جميع الديون التي في الذمة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرة إلا دينا واحدا هو دين السلم , فإنه وإن كان لازما فهو غير مستقر. وإنما كان غير مستقر , لأنه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه , فينفسخ العقد) .
عم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه عند الجمهور وبناء على كون دين السلم غير مستقر فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه:
- لا يصح بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته , أي استبداله قبل قبضه بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه (وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالاعتياض عن المسلم فيه أو استبداله)
- كما لا يصح بيعه من غير من هو في ذمته , لأنه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه , فكان كالمبيع قبل القبض.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
قالوا: وهذا يقتضي ألا يبيع رب السلم دين السلم لا من صاحبه ولا من غيره.
جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير من عليه الدين عند بعض الحنابلة
خلافا لقول الجمهور , أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية بيع المسلم فيه قبل قبضه من غير من عليه الدين , وهذا القول رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية.
جاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية (ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره , ولا فرق بين دين السلم وغيره , وهو رواية أحمد.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: والدين في الذمة يقوم مقام العين , ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره.
كذلك أجاز ابن تيمية وابن القيم الاعتياض عن المسلم فيه (أي بيعه لمن هو في ذمته) قبل قبضه بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالا , وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما , ورواية عن الإمام أحمد.
قال ابن المنذر ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل , فإن أخذت ما أسلفت فيه , وإلا فخذ عوضا أنقص منه , ولا تربح مرتين) .
وحجتهم على جواز بيعه من المدين (أو الاعتياض عنه) إذا كان ذلك بسعر المثل أو دونه هو عدم المانع الشرعي , حيث إن حديث: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ضعيف لا تقوم به حجة. وحتى لو ثبت فمعنى (فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يصرفه إلى سلم آخر , أو لا يبعه بمعين مؤجل , وذلك خارج عن محل النزاع.
قال ابن القيم (فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس , وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة) .
أما دليلهم على عدم جواز الاعتياض عنه ببدل يساوي أكثر من قيمته , فلأن دين السلم مضمون على البائع , ولم ينتقل إلى ضمان المشتري , فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة , فيكون رب السلم قد ربح فيما لم يضمن وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن.
جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه إذا لم يكن من المطعومات عن المالكية
نهج المالكية في المسألة مسلكا وسطا , إذ أجازوا بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه إذا لم يكن طعاما بمثل ثمنه وبأقل وأكثر حالا غير مؤجل كي لا يؤول إلى بيع الكالئ بالكالئ.
قال ابن رشد الحفيد (وأما بيع دين السلم من غير المسلم إليه فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع , ما لم يكن طعاما , لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه) .
أما الاعتياض عنه , أي بيعه من المسلم إليه ببدل حال فقد أجازوه بشروط ثلاثة بينها الخرشي بقوله: (يجوز للمسلم إليه أن يقضي السلم من غير جنس المسلم فيه , سواء حل الأجل أم لا , بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون المسلم فيه مما يباع قبل قبضه (وهو ما سوى الطعام) كما لو أسلم ثوبا في حيوان , فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم , إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه.
الثاني: أن يكون المأخوذ مما يباع بالمسلم فيه يدا بيد. كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلا , فأخذ عنه طست نحاس , إذ يجوز بيع الطست بالثوب يدا بيد.
الثالث: أن يكون المأخوذ مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال. كما لو أسلم دراهم في حيوان , فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبا , فإن ذلك جائز , إذ يجوز أن يسلم الدراهم في الثوب) .
وجاء في القوانين الفقهية , لابن جزي (يجوز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه من بائعه بمثل ثمنه أو أقل لا أكثر , لأنه يتهم في الأكثر بسلف جر منفعة ويجوز من غير بائعه بالمثل وأقل وأكثر يدا بيد , ولا يجوز بالتأخير للغرر) .