للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اختلف الفقهاء في محل عقد الإجارة على ثلاثة أقوال:

مورد عقد الإجارة هو المنافع

ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية إلى أن مورد عقد الإجارة هو المنافع لأنها هي التي يجوز التصرف فيها ولأن الأجر يدفع في مقابلة المنافع , ولهذا تضمن المنفعة دون العين وما كان العوض في مقابلته فهو المعقود عليه.

مورد عقد الإجارة هو العين

ذهب بعض الشافعية ومنهم أبو إسحاق المروزي إلى أن مورد عقد الإجارة هو العين , لأن المنافع معدومة , ومورد عقد الإجارة يجب أن يكون موجودا , والعقد أيضا يضاف إلى العين لأنها التي تستوفى منها المنافع فوجب أن تكون العين مورد العقد.

ولا يوجد في الحقيقة خلاف بين القولين السابقين لأن:

- من قال أن مورد عقد الإجارة هي المنفعة , لا يعني به أن تحدث منفعة بدون عين , ولكن مراده هو المنفعة المستفادة من العين.

لذلك فهو لا يقطع النظر عن العين بل يجب أن تسلم وتمسك مدة العقد لينتفع بها.

- ومن قال أن مورد عقد الإجارة هي العين , لا يعني به أن العين تملك بالإجارة كما تملك بالبيع , وليس مراده ومقصوده من الإجارة هو تمليك العين.

لذلك فهو لا يقطع النظر عن المنفعة المطلوب استيفاءها.

فالنتيجة الواحدة لهذين القولين أن محل عقد الإجارة في إجارة الأشياء هي المنافع دون الأعيان , وقد اتفق الفقهاء على اشتراط أن لا يتضمن استيفاء المنفعة استهلاك العين مثل استئجار الشمع للاستضاءة به , والصابون للغسل به , فلا تصح الإجارة على ذلك لأن الإجارة عقد على المنافع وهذه لا ينتفع بها إلا بإتلاف عينها.

وهذا هو الأصل , وهو امر مقرر عند جمهور الفقهاء. فلا يجوز عند أكثر الفقهاء إجارة الشجر والكرم للثمر ذاته , لأن الثمر عين , والإجارة بيع المنفعة , لا بيع العين.

ولا تجوز أجارة الشاة للبنها أو سمنها أو صوفها , أو ولدها , لأن هذه أعيان , فلا تستحق بعقد الإجارة.

ولا تجوز إجارة ماء في نهر أو بئر أو قناة أو عين , لأن الماء عين.

ولا يجوز استئجار الآجام التي فيها الماء للسمك وغيره , من القصب والصيد , لأن كل ذلك عين.

وعليه , لا تجوز إجارة البرك أو البحيرات للاصطياد فيها , أي ليصاد منها السمك.

ولا تجوز إجارة المراعي في البادية أو الحقل مثلا لأن الكلأ عين , فلا تحتمل الإجارة.

ولا يجوز عند الجمهور استئجار الفحل للضراب , لأن المقصود منه النسل , بإنزال الماء , وهو عين وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل أي كرائه , وقد حذفت كلمة الكراء من باب المجاز المرسل مثل {واسأل القرية} (سورة يوسف ٨٢) أي أهلها , لأن الجدران والمباني لا تسأل.

ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات , لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد استهلاك أعيانها , والمعقود عليه في الإجارة: هو المنفعة , لا العين.

لهذا كله قرروا أن (كل ما ينتفع به مع بقاء عينه تجوز إجارته , وما لا فلا) .

واستثنوا إجارة الظئر (المرضع) للضرورة وأجاز المالكية كراء الفحل للنزو على الإناث وأباح أكثر العلماء أجرة الحجام للحاجة.

وقالوا إذا حدث ما يرد على العين وهو مشابه للمنفعة مع بقاء أصله فيمكن القول بجوازه استثناء من القاعدة العامة , ورخصة للضرورة أو الحاجة.

وذلك مثل لبن الظئر وماء البئر وغيرهما فتدخل على طريق التبع قياسا على الصبغ في الثوب , فإن الاستئجار على صبغ الثوب أما عين الصبغ فتدخل تبعا.

مورد عقد الإجارة العين التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها

خالف ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من قبلهم , وقالوا بجواز عقد الإجارة على العين التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها كالمنفعة.

فتصح الإجارة على لبن الظئر وماء البئر لأن الماء واللبن لما كان حدوثهما شيئا بعد شيء مع بقاء الأصل كانا كالمنفعة. فقد قاسا الأعيان التي تتجدد مع بقاء الأصل على المنفعة لاشتراكهما في علة الحدوث والتجدد مع بقاء الأصل.

وقال ابن تيمية

إن الأعيان المتجددة أحق بالجواز من المنفعة لأن الأجسام أكمل من صفاتها.

وقال ابن القيم

إن الأصل الذي سار عليه الفقهاء (وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان) أصل فاسد , فهو لم يدل عليه كتاب , ولا سنة , ولا إجماع , ولا قياس صحيح , بل الذي دلت عليه الأصول:

أن الأعيان التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها , حكمها حكم المنافع , كالثمر في الشجر , واللبن في الحيوان , والماء في البئر , ولذلك سوى بين العين والمنفعة في الوقف فجاز وقف المنفعة كالسكنى , وجاز وقف العين كوقف الماشية للانتفاع بلبنها.

وكذلك سوي بينهما في التبرعات , كالعارية لمن ينتفع بالمتاع , ثم يرده , والمنيحة (الهبة) لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها , والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها , فكذلك في الإجارة تارة تكون على منفعة , وتارة تكون على عين تحدث شيئا فشيئا مع بقاء الأصل , كلبن الظئر ونفع البئر , فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئا فشئيا مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة.

والجامع بينهما هو حدوث المقصود بالعقد شيئا فشيئا , سواء أكان الحادث عينا أم منفعة.

والأخذ برأي ابن القيم رحمه الله أوجد سعة وفرجا وتيسيرا في عمل الناس اليوم فعلا وقانونا في إجارة الأعيان , كالمراعي والبحيرات والأنعام المحلوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>