أن أعايش القضية السابقة في وجهيها الأصيل والدخيل درسًا وتقويمًا وموازنة وكان مجال ذلك كله "منهج النحو العربي" أو بعبارة أخرى: الأسس التي أحكمته وتحكمت فيه، مما كشف لي بطريقة علمية محددة ما كنت أحس به من قبل غائمًا غير محدد، فتعرفت -على قدر جهدي واجتهادي- على مسار التفكير في النحو، وكيف نما وتعقد ثم كان لي من ذلك كله موقف علمي يستند إلى الدراسات اللغوية الحديثة أعانني على فهمه أستاذي العالم الجليل الدكتور "تمام حسان" ولم يكن قوام هذا الموقف النقد فقط، بل النقد والتصحيح، لم يكن قوامه تشخيص الداء وحده، بل تشخيص الداء والدواء جميعا، هذا مع التعاطف التام مع كل ما في كتاب النحو العربي من أصيل صحيح ورفض ما هو طفيلي مزيف.
صار الإحساس الغائم إذن حقيقة محددة، وأصبحت الشكوى الممرورة منهجًا مدروسًا، وانتهت مرحلة الرفض الانفعالي المهوّش، وبدأت مرحلة الفهم المتزن المدروس، وخرجت من دخان الظنون والتخمين إلى مناخ أقرب ما يكون إلى التحديد واليقين، فازددت اقتناعا بضرورة تصفية النحو من أوشابه وعلاجه من أوصابه والكشف عن وجهه الصحيح المشرق.
وفي أثناء ذلك كنت أعيش التجربة في صورة أخرى غير صورة الكتب القديمة والمنهج، كنت أعيشها مع الدارسين المتخصصين من طلاب اللغة الذين يجأرون بالشكوى كل حين من النحو وصعوباته التي تتمثل في تشتت أفكاره وكزازة عرضه، وتجمد أمثلته، وغرابة شواهده وتهافت الكثير منها، مما يترتب عليه تلقائيا التمزق والتململ والكراهية والشكوى المستمرة، مع أن هؤلاء الحانقين الشاكين هم الذين سيحملون -فيما بعد- أمانة تعليم اللغة للصغار والكبار في العالم العربي ومسئولية الكلمة المكتوبة والمنطوقة في حياتنا الأدبية والعلمية.
وفي هذا التصوير السابق للشكوى والتذمر كثير من الحق مع الأسف!! وهو أحد الأسباب التي دفعتني للخروج من الاقتناع الفكري المجرد إلى التصميم العملي على تأليف هذا المكتوب "النحو المصفى" ملتزما في تأليفه النهج التالي: