قال أبو العباس المبرّد: مما يؤثر من حكيم الأخبار وبارع الآداب ما حُدّثنا به عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: دخلت يومًا على أبي بكر الصديق في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئًا يا خليفة رسول الله!! فقال: أَما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عَلَيّ من وجعي، إني ولَّيتُ أموركم خيركم في نفسي، فكلكم وَرِمَ أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذُنَّ نضائد الديباج وستور الحرير ولتألَمُنَّ النوم على الصوف الأذْربيّ كما يألم أحدكم النوم على حَسَك السَّعدان، والذي نفسي بيده لأن يُقَدَّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خيرٌ له من أن يخوض غَمَراتِ الدنيا، يا هاديَ الطريق جُرْت، إنما هو -والله- الفجر أو البُجْر!!
فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك فوالله ما زلتَ صالحا مصلحا، لا تأسَ على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخلَّيتَ بالأمر وحدك فما رأيتَ إلا خيرا.
(١) الكامل في اللغة والأدب، لأبي العباس المبرد، الجزء الأول، ص ٦. حسك السعدان: الحسك: الشوك، والسعدان: نبت كثير الشوك، الصوف الأذربي: صوف جيد منسوب إلى "أذربيجان" في فارس، البجر "بضم الباء": الشر والأمر العظيم، يهيضك: مأخوذ من "هيض العظم" إذا كسر مرة ثانية بعد جبره من الكسر الأول.