للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن العجيب أن اليعسوب لا يخرج من الكور؛ لأنه إن خرج خرج معه جميع النحل فيقف العمل، وإن هلك اليعسوب وقفت النحل لا تعمل شيئا فتهلك عاجلا، واليعسوب أكبر جثة يكون بقدر نحلتين وهو يأمرهم بالعمل يرتب على كل أحد ما يليق به، يأمر بعضها ببناء البيت، ويأمر بعضها بعمل العسل، ومن لا يحسن العمل يخرجها من الكور ولا يخليها في وسط النحل، وينصّب بوابا على باب الخلية؛ ليمنع دخول ما وقع على شيء من القاذورات.

(وأما) اتخاذ بيوتها مسدسة فمن أعجب الأشياء، والغرض من المسدسات المتساوية الأضلاع لخاصية يقصر فهم المهندس عن إدراكها، ولا توجد تلك الخاصية في المربع وفي المخمس ولا في المستدير، وهي أن أوسع الأشكال وأجودها المستدير وما يقرب منه، أما المربع فيخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى خالية، ولو بناها مستديرة لبقي خارج البيت فرج ضائعة؛ فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لا تجتمع متراصة ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، فانظر كيف ألهمها الله تعالى ذلك وجعل لها اتخاذ هذه الأشكال المتساوية الأضلاع بحيث لا يزيد ضلع على ضلع ولا ينقص، ويعجز عن هذا التساوي المهندس الحاذق بالفرجار والمسطرة فتعمل النحل في فصلين في الربيع والخريف، فتأخذ بالأيدي والأرجل من ورق الأشجار وزهر الثمار والرطوبات الدهنية التي تبني به بيوتا، ولها شفران حادان تجمع بهما من ثمرة الأشجار رطوبات.

(لطيفة) عجزت عقول الأكثرين عن معرفتها على طبائع، وخلق في جوفها قوة طابخة تصير تلك الرطوبات عسلا حلوا لذيذا غذاء لها ولأولادها، وما فضل عن غذائها تجعله مخزونا في بعض البيوت، وتغطي رأسها بغطاء رقيق من الشمع حتى يكون الشمع محيطا به من جميع جوانبه كأنه رأس البرنية مسدودة بالقراطيس وآخر ذلك الوقت الشتاء.

وتبيض في بعض البيوت وتحضن وتفرخ وتأوي إلى بعض بيوتها، وتنام فيها أيام الصيف والشتاء ويوم المطر والريح والبرد، وتتقوت من ذلك العسل المخزون هي وأولادها يوما فيوما لا إسرافا ولا تقتيرا إلى أن تنقضي أيام الشتاء، ثم تأتي أيام الربيع ويطيب الزمان ويخرج النّور والزهر فترعى منه وتفعل كما فعلت في العام الأول، ولم يزل هذا دأبها بإلهام من الله تعالى، كما قال: ﴿وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ [النحل: ٦٨،

<<  <   >  >>