للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالإضافة إليها كحلقة ملقاة في فلاة (١)، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: ٤٧]، ثم إلى دورانها مختلفا؛ فإن بعضها يدور بالنسبة إلينا رحوية وبعضها حمائلية وبعضها دولابية وبعضها يدور سريعا وبعضها يدور بطيئا، ثم إلى دوام حركتها من غير فتور وإلى إمساكها من غير عمد تعمد بها (٢) أو تدلى بها أو علاقة تدلى بها.

ثم لتنظر على كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها فإن بعضها يميل إلى الحمرة، وبعضها إلى البياض، وبعضها إلى لون الرصاص، ثم إلى مسير الشمس وفلكها مدة سنة، وطلوعها وغروبها كل يوم لاختلاف الليل والنهار، ومعرفة الأوقات وتمييز وقت المعاش عن وقت الاستراحة (٣)، ثم إلى إمالتها عن وسط السماء حتى وقع الصيف والشتاء والربيع والخريف.


(١) الفلاة: أي الأرض الواسعة المقفرة تجمع على (فلا وفلوات).
(٢) قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ﴾ [سورة لقمان: ١٠]، وفكر أيضا في لون هذه السماء وما فيها من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها حتى أن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة ما قرب منها إلى السواد وقد وصف الحذاق منهم لمن كَلّ بصره الاطلاع في إجانة خضراء مملوءة ماء؛ فانظر كيف جعل هذا الأديم، أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد لتمسك الأبصار المتقلبة عليه فلا ينكى فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بعد التفكر والتجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة. انظر الدلائل والاعتبار ص ٦.
(٣) قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً﴾ [النبأ: ٩ - ١١].
قال الجاحظ: فكر في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله فكيف كان الناس يسعون في حوائجهم ومعايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم؟ وكيف كانوا يتهنون بلذة العيش مع فقدهم لذة النور وروحه؟ فالأرب في طلوعها ظاهر مستغن عن الإطناب فيه ولكن تأمل المنفعة في غروبها فإنه لولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء ولراحة أبدانهم وجموم حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء كالذي تصف كتب الطب من ذلك.
ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة، وما في ذلك من المصلحة؛ ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فتتولد فيه مواد الثمار ويستكثف الهواء فينشأ منه السحاب والمطر وتشتد أبدان الحيوان وتقوى الأفعال الطبيعية وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد.
وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء والاعتمال، وفي الخريف يصفو الهواء فترفع الأمراض وتصح الأبدان ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال الطويلة إلى مصالح أخرى، لو تقصى ذكرها طال الكلام فيها. انظر الدلائل والاعتبار ص ٧.

<<  <   >  >>