وتقدمه على كل المعارف اليقينية العقلية والمعنوية، بل إن بعضها يلغي تمامًا أي شيء عدا المعرفة الحسية الظاهرية المنقولة بالحواس الخمس، أمّا ملكات العقل وضروراته ولوازمه ومعطياته فإنهم يؤمنون منها بما يخدم المذهب الحسيّ الظاهريّ مثل قدرة العقل على تسجيل الظواهر وخزنها في الذاكرة واختبارها بالتجربة ونحو ذلك، وما عدا ذلك -وهو كثير- لا يوقنون به، مع أن (المعرفة البشرية:
١ - معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهان، ولها ثلاثة مصادر: الحس، وأوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس، والإلهام.
٢ - ومعرفة تكتسب بالبرهان، وهذه مصدرها الحس وأوائل التمييز؛ لأنها تستمد برهانها منهما أو من أحدهما، وهذه المعرفة يتوصل إليها بالبرهان وهو شاهدة الأثر والاستدلال به، مع ضرورة صدق الناقل، وهي على قسمين من جهة الحكم والتصديق عقلية وهي ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال، وغير عقلية وهي ما لم يقنع العقل من حس خاطئ وشرع مدسوس، وإشراقة كاذبة) (١).
والماديون والملاحدة ينكرون الأديان ووجود اللَّه تعالى والكتب المنزلة مع أن إثباتها ضرورة عقلية اضطرارية ونفيها سفسطة، ويوجد من معارفهم ما يناقض دعاواهم الإلحادية، (فإن الماديين من التجريبيين والوضعيين الذين يقولون لا نؤمن بإله غير منظور ولا ملموس ولا مذوق إلى آخر كلامهم محجوجون: بأن الأثير يملأ الفضاء ويبلغنا الضياء ويحمل الأصوات من وراء الجدار وهو غير ملموس ولا منظور ولا مذوق ولا مشموم ولا مسموع والمادة غير محسوسة، وكذلك الموت والروح كل ذلك غير محسوس بالحواس الخمس ومع هذا فلم تهدر حقيقتها، وإن من ينكر حقيقة ما ذكرنا علمًا ضروريًا، ونقول لهؤلاء: ما أدركتموه هل له حقيقة أم لا؟ فإن قالوا: له حقيقة نقضوا أصلهم إذ آمنوا بما لم تدركه حواسهم، وإن قالوا: لا حقيقة
(١) لن تلحد، لأبي عبد الرحمن الظاهري: ص ٣٣ - ٣٤ بتصرف يسير.