وثالثًا: نجد في معطيات العلوم التجريبية من الحقائق العلمية ما يتوافق تمام الموافقة مع أخبار الوحي.
ولكن الإطار الإلحادي الذي ضم فئات كثيرة من الناس اليوم تسلط على عقولهم فاعتبروا بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال وجود المخلوقات المشهودة هو الوجود الحقيقي، فصفاتها ونتاجها وأعمالها هي الحقيقة، وما لم يكن مشهودًا فهو إلى الفكرة الذهنية أقرب منه إلى الحقيقة الواقعية.
وتعدى هذا التصور المادي المحسوس جميع الأطر والحسابات، وأصبح تأثيره بينًا على التصورات الإعتقادية والآراء التشريعية بل تعدى إلى الأذواق والمظاهر، فأصبح الأدب والفن ضمن هذه الدائرة المظلمة، وحتى الأزياء والملابس -وخاصة فيما يتعلق بالمرأة- أضحت في كثير من بلاد العالم الإسلامي تسير على الخطى نفسها.
وصار كل ما يفعله الغربيون رجالًا ونساء بملابسهم أو شعورهم جميل ومتحفمر، وكل ما كان يفعله المسلمون، أو ما يفعلونه مما ليس فيه تقليد للغرب فهو قبيح متخلف، وإذا احتفلوا برأس السنة الميلادية فلابد أن نحتفل معهم، وبطريقتهم أيضًا، وإذا جعلوا لأبنائهم أعياد ميلاد، فكذلك ينبغي أن نفعل، وإذا نسبت المرأة إلى زوجها بدلًا من أبيها فلابد أن نقلدهم في ذلك، وإذا جعلوا إعلامهم موئلًا لنشر الرذائل وكشف العورات فلابد أن يهرع الإعلام على آثارهم، إلى آخر ما لا يكاد يحصى من أنواع التشبه البليد، الذي يدل على الضعة والتبعية العمياء والاندحار والهزيمة المعنوية، وضمور الحقيقة وغلبة الصورة والمظهر.
وإن كان التقليد في المسائل الشكلية أقل خطرًا من التقليد في المفاهيم والعقائد والمناهج، إلّا أنه يدل بجلاء على عمق التبعية وغباوة المتبعين.
وإذا كان للتقليد في التصورات والتشريعات تأويلات ومماحكات من قبل أصحابها، فلا يُمكن أن يوجد للتقليد في المسائل المظهرية والشكليات الظاهرية مسوغ سوى الافتتان بالمقلد، واعتباره المعيار القويم لما ينبغي أن يفعل أو يترك.