وابتعدوا عن حياة الناس، ووقفوا من السلطان موقف المؤيد المنتفع المحابي أو المنعزل المتواري، فتعاظم الفساد والجهل وانطمست معالم العلم إلّا بقية في زوايا الأرض هنا وهناك.
والمتعبدون -إلّا من رحم اللَّه- في بدع وخرافات ورهبانية ابتدعوها، وطرق وأوراد أحدثوها، وانعزلوا عن الحياة تحت شعار "دع الخلق للخالق".
والحاكمون جهلة بالدين، لا هتم لهم سوى توسيع الممالك وجمع السبائك، ومحاربة الجار المسلم، ومحالفة العدو الكافر.
لقد كان بعض هذا كافيًا لاستعمار تلك الجماهير التي عاشت هذه الحياة الضعيفة الممزقة الجاهلة.
ولما جاء الاستعمار بقواه الجرارة، وبفكره المنظم المنطر، وبمكتشفاته واختراعاته، وجد قومًا أقرب إلى البلاهة والبلادة منهم إلى النضج والعقل، فلا دينهم الذي به عزتهم وقوتهم المعنوية أقاموه، ولا دنياهم التي بها عماد معاشهم وقوتهم الحسية حفظوها.
فالدين تحول عند الكثيرين إلى تقليد وبدع ومحدثات وتصوف وانعزال، والحكم تحول إلى سلطة واستبداد وأثرة، والأمة ضاعت بين فتاوى المقلدين الجامدين المتعصبين لمذاهبهم، وبدع المتعبدين، وظلم وقهر الحاكمين.
ولولا بقية من الذين حفظ اللَّه بهم الدين من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وغلو الغالين، وتفريط المفرطين، لكان الحال أبأس مما نحن عليه اليوم.
وعندما قدم الاستعمار والأمة على ما سبق وصفه، نسج لأبناء المسلمين تحت ظلام دامس وفي مكر شديد وخديعة كبيرة ثيابًا من العقائد والأفكار وألبسهم إياها، ثم أورثهم ما كان بيده من قوة وسلطان وإدارة وإعلام ومطابع وصحف، وانسل بجيوشه تحت بهارج من فرحة الاستقلال المزعوم، فإذا الورثة يقومون بحق الإرث عن أسيادهم أشد القيام وأعتاه وأخبثه، وكان المستعمر قد أوهم المسلمين أنه انصاع لنضال بعض أولئك المصنوعين على